سنة 1938 جاء إلى لبنان من نيويورك عالِما المتحَجِّرات الأميركيان القسّيسان إِيْوِنْغ ودُوبِرتي، نَقّبا في وادي نهر الكلب، فعثرا على حجارة صَوّانيةٍ منحُوتةٍ ومصقُولةٍ حفرا تَحتها حتى عمقِ عشرين متراً ليكتشفا تحت الرواسب المتراكمة بقايا هيكلٍ عظميٍّ متحجِّرةً تبيَّن أنها لولدٍ في نحو سنّ العاشرة، رَجَّحا أن يرقى عُمْر عظامه إلى نحو خمسين ألف سنة.
قبْلذاك بسَنَتَين (1936) كان العالِمان الأثريّان موريس دونان وزوجتُه يَحفران في قلب القسْم القديم من مدينة بيبلوس، فوجدَا تحت ركام عشرينَ حضارةً متتاليةً دعائمَ أبنيةٍ أَعادا تركيبَها فاكتَشفا أنها أَقدمُ مساكنَ بالحجارة المقصَّبة على وجه الأرض.
بَهذين المدْخَلَين، افتتحَ شارل قُرم كتابه “ستة آلاف سنة من العبقرية السِلْمية في خدمة الإنسانية”، وهو أساساً مُحاضرةٌ كان أَلقاها في 7 حزيران 1949 على منبر “الندوة اللبنانية” بعد سنةٍ من انعقاد الجمعية العمومية للأونسكو في بيروت، وعادت منشوراتُ “المجلة الفينيقية” فأصدَرَتْها كتاباً مستَقِلاًّ بِنَصِّها الفرنسي الأَصلي، وطبعةً مستقلةً في 128 صفحة لترجمتها العربية التي وضعها يوسف غصوب وجميل جبر.
استهلّ شارل قرم بَحثه بِنَصٍّ كان ألقاهُ لـ”مؤتمر الإنسانية” في موناكو سنة 1935، أَضاء فيه على “إِسهام اللبنانيين، منذ كانوا كنعانيين ففينيقيين، في حضارة الحرية على أوسع معانيها الانفتاحية الإشعاعية، لا على مستوى البحر الأبيض المتوسط فقط، بل تَعَدَّتْه إلى حضارة الإنسانية التي أغْنَت شعوب العالَم”.
في هذه المحاضرة، سنة 1949، أيقظ الشاعر الكبير في جمهور سامعيه شعورَ الاعتزاز باكتشافهم عَظَمَةَ ما حقّق أَسلافُهم القدامى لِخدمة الإنسانية، ما يفسِّرُ بيتَين من قصيدته الشهيرة “الجَبَل المُلْهَم”:
“لَم تشْهَدْ أَيَّةُ بقعةٍ في الأرض
أَصْغَرَ من هذا البلد وأَكبَرَ من قدَره”.
وتبياناً هذا القدَرَ اللبنانيَّ الفريدَ في التاريخ، راح شارل قُرم يستعيد ما كان عبر العصور من إِسهامات لبنان، هذه الزاوية القديمة في الشرق الأدنى، عَمّت تردُّدَاتُها كلَّ مكان في الأرض، مثلما تتردَّد أصداء أمواج بحره القديم المتجدِّد الدائم الشباب على سفْح جَبَله السّعيد والعنيد، حاملةً أنفاساً من هواءٍ يَحمل في طيّاته عَبَقَ الأساطير الخالدات.
ويتنقَّل شارل قرم في نَصِّه مُوَثِّقاً مَحطاتٍ كبرى للفينيقيين عبر التاريخ، من نجمتهم في القطب (كما سَمّاها اليونان) إلى بلوغهم ڤنزويلاّ والبرازيل، وأَينما حَلُّوا زرعوا نبضاتِ الروح السلْمية بمحالَفَاتِهم ومعاهداتِهم وما ترك كبارُهُم من فلاسفة وأدباء وشعراء ومبدعين، وُصولاً إلى بعلبكّ أعظم الآثار الهندسية في التاريخ البشري، بناها شعبٌ صغيرُ العدَد جبّارُ القُدُرات.
كتاب شارل قرم “ستة آلاف سنة من العبقرية السِلْمية في خدمة الإنسانية”، بصفحاته الضئيلة، مرجعٌ مفتاحٌ للدخول إلى تاريخ لبنانَ القديم العريق المذهل، وطناً لَم يَكُن يوماً غازياً إلاّ بِإِبداع أَبنائه وإِشعاعهم الحضاري.
وهنا عظَمَةُ الوطن الذي لا يتقَوقَعُ في أَرضه ومُحيطه بل يَنفتحُ على الدنيا، ولا يُقاس بالجُغْرافيا ولا بالديموغْرافيا بل بالإِشْعاعُوغْرافيا.
وهكذا لبنان.