بين أكثر المستشرقين والرحّالة الذين زاروا بلادَنا في القرن التاسع عشر، وكتَبوا عنها وعن أَرضها ومناخها وشعبها وجَمالِها، يبقى كتابُ الشاعر لامرتين أَجملَها تأثيراً في القلب والذاكرة، لِما صاغ هذا الشاعر بنَثْره الشاعريّ حبَّه لبنانَ وشغَفَه بأهله وطبيعته.
كتابُه “رحلة إلى الشرق” (Voyage en Orient) الصادر في پاريس سنة 1835، يروي فيه رحلته منذ انطلق من مرفإ مرسيليا في 20 أيار 1832 حتى عودته بعد ثمانية عشر شهراً زار خلالها مالطا وأثينا وقبرص وبيروت وجبل لبنان وبعلبك والأرز والقدس وضفاف الأردن ويافا وصولاً إلى القسطنطينية.
ولأَنّ هذه الحلقة نهار الأحد، خصَّصْتُها للكتُب عن لبنان، أَقتطف من كتاب لامرتين مقاطع عن بيروت والجبل.
في 7 أيلول 1832 كتَب: “لَم أعرف في حياتي جَمالاً يُضاهي رؤيتي مشهدَ الجبال من نافذتي في بيروت. إن لِجبال لبنانَ طابَعاً مُمَيَّزاً لَم أَرَهُ في جبال الأَلپ ولا في جبال طوروس. رأَيت مزيجاً من سُمُوّ الخطوط والقمَم المهيبة، بِجمالِ تفاصيلَ وتَنَوُّع أَلْوان. جبالٌ وقورةٌ تغوصُ قممُها الهوائيةُ في سَكينةٍ عميقةٍ تُغَلِّفها الروعةُ الأبدية. وكأنّ الشمس ترتاح فوق زوايا هذه القمَم المذهّبة، يَتماوج عندها بياضُ ثلوجٍ نقيٌّ يبقى عليها حتى منتصف الصيف. وفي الجهة المقابلة: مآذنُ المساجد العاليةُ تنتصب في هواءِ الصباح الأزرق، وقبالتَها في البعيد: أديارٌ كبيرةٌ معلَّقة عند جبين القرى”.
وفي 12 أيلول كتَب: “على نصف فرسخٍ شرقاً، زرعَ الأمير فخر الدين غابةَ صنوبرٍ فوق هضبةٍ رملية تَمتدُّ من البحر إلى السهل. وهو أَراد هذه الغابة سوراً يقابل تلالَ رملٍ أحمرَ تُهدِّد بابتلاع بيروت ومزروعاتها الغنية. ومن هناك سمعتُ همهمة البحر مُمتزجةً بأصوات ريحٍ تَتَمَوْسَقُ في رؤوس أشجار الصنوبر يُمازِجُها غناءُ آلاف العصافير، في حالةٍ أَسكرَت روحي، وجعلَتْ هذه المدينةَ موطناً لأحلامي أَرغبُ في أَن أَعود يوماً إليه وأَعيش فيه”.
وفي 29 أيلول، بعد زيارته الليدي إِستِر سْتِنْهُوپ وانتقالِه لزيارة الأمير بشير الشهابي في قصر بيت الدين، كتَب: “لن أَنسى في حياتي مشهدَ هذا الوادي. لا شكَّ عندي أنَّ هذه هي الأرضُ الأُولى، أرضُ الشِعر المهيب والعواطف الإنسانية. هنا أَسمعُ نبرة النبوءات، وأَرى صُوَرَ الشِعر طالعةً من الكتاب المقدس ومَحفورةً بأحرفٍ كبيرةٍ فوق جبال لبنان المخَدَّدة وقممِها المذهَّبة وعند أنْهارِها الجارية وأوديتِها الخرساء. إنّ الفكر الإلهي نَفَخَ في قيثارات هذا الشعب الشاعريّ وكَلَّمَه بالرموز والصُّوَر”.
وهَزَّهُ التأثر بعد ختام رحلته، حين أَهدى إليه سيفاً شرقياً أعضاءُ وفد لبناني في پاريس، فكتَب إليهم: “تلقَّيتُ السيف الذي أَرسلتُمُوه لي. سأحتفظُ به ما دمتُ حياً، وسَأُوصي أَفراد عائلتي أن يَحتفظوا به بَعدي شهادةً حيَّة على صداقتكم. منذ تركتُ جبالَكم، تَشُدُّ بي رغبةُ أَن أَعودَ فَأَعيشَ في ربوعكم. منحتُموني الضيافةَ كأنّي أَخٌ لكم، وأَنا أَمنحُكُم أُخُوَّتي. وإنني أَتشرَّفُ بأن تَحسَبوني واحداً منكم. أَمَدَّكُمُ الله بأيامٍ طويلة، وباركَ جبالَكُمُ المقدَّسة، وأغدقَ عليها دائماً أَغلى نعمةٍ يعطاها الإنسان: الحرّية”.
ومن لامرتين القرن التاسع عشر إلى كلّ لامرتين في القرن الحادي والعشرين، سيبقى لبنانُ وطنَ الكنْزَيْن: طبيعةٌ هي الشِعر حياً في مرابع الجمال، وشعبٌ يعيشُ على خُبْزَيْن، أَوَّلُهُما الحرّيّة.