717: وجهان لِموت واحد

وجهان لِموت واحد
29 تشرين الأول 2011
-717-

قبل سنوات: طرحَ الجنرال ديغول استفتاءً على إصلاحاتٍ ينوي إجراءها لفرنسا. جاء الجواب الأكثريّ “كلا”، فاستقال من الحُكْم برسالة من اثنتي عشرة كلمة:”أتوقف عن ممارسة مسؤوليتي رئيساً للجمهورية، ويبدأ مفعول هذا القرار ظهر اليوم”. وانسحب يومها إلى ضيعته كولومبيه ليه دوزيغليز (سنة 1969 قبل سنة واحدة من إكمال ولايته الثانية) يُمضي أيامه الأخيرة لا يستقبل إلاّ الأقربين، وتوفي بعد سنة وسبعة أَشهر موصياً بأن يقتصر مأتمه على قلّة من المقرّبين، وهكذا كان. لكنّ التعازي به استقطبَت إلى پاريس كبار قادة العالم. كان ديغول في غيابه ساطعاً كما حُضورُه الذي أَنقذ فرنسا من جحيم الحرب إلى نعيم الجمهورية الخامسة.
قبل أيام: عايَنَ العالَمُ مشهدَين مؤثِّرَين في اتجاه متعاكسَين.
في الرياض مأتَمٌ مَهيبٌ لفقيدٍ جليلٍ بكاه شعبُه أميراً ذا حسَناتٍ خيِّراتٍ، واستقطَب إلى عاصمة المملكة كبار قادة العالم ومُمثِّلين عنهم في وقارٍ وإجلال، شيّعوه إلى مثواه الأخير الذي سيصبح مقصَداً ومَحجّاً. وفي “سِرْت” بضعةُ أَشخاص، في مكانٍ “سِرّيّ” من صحراء شاسعة، يطمرون جسداً مُدمّى قصَدوا ألاّ يعرف أحدٌ مثواه كي لا يزورَه أحد.
في الرياض جثمان، وفي “سِرْت” جثة.
في الرياض افتقادُ رجلٍ عظيم من المملكة، غيابُه خسارةٌ فادحةٌ وفراغٌ كبير، وفي “سِرْت” طَمْرُ رجلٍ فارٍّ حَكَم بلاده اثنتين وأربعين سنةً، لم يفتقده أحد ليشعر بأن موته خسارة، ولم يترك بعده أثراً حتى لِمن يعزّي به.
في الرياض غائبٌ كبير عَكَس موتُه ما كانت حياتُه من مآثر وفضائل ومكرمات. وفي “سِرْت” غائبٌ أراح غيابُه من كانت حياتُه كابوساً عليهم طوال سنوات حكمه.
لا لِمقابلةٍ بين الرجلين هذا الكلام. حاشا. إنما للتأمُّل في مَن يزرعُ على حياته قمحَ الخير والبَرَكَة فيحصدُ في غيابه سنابلَ الوفاء والتقدير والحسرة على الغياب، بينما مَن يزرعُ على حياته زؤانَ الشرّ والدسائس والمؤامرات وتشجيع الاغتيالات والحروب فيحصدُ في موته غريزةَ انتقام مَن قَهَرَهم وأَذَلَّهم وسبّب حروباً لديهم أو لدى بلدان الآخرين، وإن تَكن طريقة قتْله لاإنسانيةً أو خارج كل عُرْف قانوني أو بشريّ.
وجهان لِموتٍ واحد في ملاقاة رَبّ العالمين: وجهٌ رَضيٌّ رافقته الصَّلَوات والأدعية وحَسرةُ أُسرتِه وشعبِه، ووجهٌ مُدَمّى أهالَ الترابَ عليه مَن حَملوا في رفوشهم لعنةَ شعبِه الثائر وضحاياه المظلومين.
وجهان للموت.
إن الموتَ هو الوجهُ الحقيقيُّ للحياة: مَن يعِشْ حياته كريماً تكُنْ له ميتةٌ على مستوى الكرامة.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*