في 309 صفحات حجماً كبيراً، تتصدَّرها على الغلاف لوحة “في ضوء القمر” أَكريليك لِـمارون الحكيم، أَصدرَت الباحثةُ اللبنانية سَمَر ناهض الحكيم (في شُباط العام الماضي) كتابها في الفرنسية “الْمُتَخَيَّل بين الفَنّ التشكيلي والشعر في لبنان” (L’Imaginaire dans l’Art et la Poésie au Liban) لدى منشورات لارماتان – باريس ضمن سلسلتها “الفنون هناك”.
وهي تنحو في دراسَتِها الأكاديمية الرصينة إلى أنّ “الشعراء والتشكيليين اللبنانيين رسماً ونحتاً شرقيُّون حتى آخر نبضةٍ من قلمِهم على الورقة البيضاء وآخر همسةٍ من ريشتهم على القماشة البيضاء، لأنهم أَبناء الشمس رغم جميع الظُلُمات التي خيَّمَت على وطنهم، فظهرَت عواطفُهم وانفعالاتُهم في آثارهم الإبداعية”.
وترى الكاتبة أنّ “الشعر والفن التشكيلي في لبنان يغتذيان من تراث لبنان بدون الإشاحة عن المنابع الغربية، تماماً على صورة وطنِهم: يقدِّم لزُوَّاره وسُـيَّاحه قوساً ملوّناً من الحضارات والأديان والمناظر، وشعباً صلباً عنيداً كريماً مرحاباً مقتبلاً كلَّ جديد. من هنا انْبجاس جمالٍ مُتَميِّزٍ في هذا القوس، أثيريٍّ كسطرٍ من الضوء، ينعكس في قصيدةٍ هنا أو لوحةٍ هناك أو منحوتةٍ هنالك”. ولأن الحلْمَ مفتاحُ كلِّ بابٍ إلى التفسير، نَهَدَت إليه الكاتبة لاكتشاف المتَخَيَّل اللبناني في إبداعات الرسامين والنحاتين والشعراء الفرنكوفونيين اللبنانيين في القرن العشرين، بهذه الدراسة التي هي أوّل أُطروحة جامعية قارنَت بين الشعر اللبناني الفرنكوفوني والفن اللبناني التشكيلي ونالت عليها الدكتوراه بدرجة “مشرِّف جداً” من جامعة الروح القدس – الكسليك.
بلوغاً إلى تفصيل فكرتها المقارنة بين هذه الفنون الإبداعية الثلاثة، جعلت الكاتبة كتابها في أقسام ثلاثة.
في القسم الأول عالجَت “المشهد” بين القصيدة واللوحة، باحثةً عن الحوافز خلف الشِعر والرسم في لبنان، وعن الحرب حافزاً وراء “المشهد”، وعن المسافة بين المتَخَيَّل والمحسوس في الشِعر والرسم.
في القسم الثاني عالجَت “الجسد” بين الشِعر والنحت، باحثةً عن مفهوم المدى الفضائي بين المتَخَيَّل والواقع، وبين المنحوتة والقصيدة النحتية.
وفي القسم الثالث عالجَت الرسم والنحت في لبنان، باحثةً عن انعكاس “المشهد” على الحواسّ والمشاعر في القصيدة واللوحة، ثم عن تردُّدات الجسد في القصيدة والمنحوتة، وأخيراً عن الشعر والرسم والنحت ثالوثاً فنياً إبداعياً في لبنان.
بهذه الأقسام الثلاثة، تُتَوِّجُها عبارةُ ناديا تويني “الشعر شيءٌ جامدٌ يَسكُنُه كائنٌ حيّ”، توسّعت الكاتبة في دراستها انطلاقاً من مقطعٍ شعريٍّ لها جاء فيه: “صُوَرُ القصيدة في الذاكرة تتلألأُ على صفحاتِها الزرقاء، واللوحاتُ في قلب الانتظار تُدندنُ على إيقاع الحياة، والمنحوتاتُ تتصاعدُ باقاتِ بَخورٍ في رؤية الزمان”. وهي شكَّلَت هيكليةَ دراستِها على ضوء قناعتها أنّ “في كلِّ فكرةٍ تنبُضُ ألوانٌ وأَشكالٌ تُجَسِّدها الكلمات. والقصائد واللوحات والمنحوتات مرتبطةٌ في ما بينها بصورة مُتَخَيَّلةٍ حاملةٍ شحناتِ العاطفة. فَجُذورُ كلِّ فنٍّ تلتقي عند مفتَرَقٍ واحد هو المتَخَيَّل، والحلُمُ الخلاّق هو الذي يَحُثُّ الفِكْرَ المتخَيِّل، ويُحرّك الصوَر المتَخَيَّلة”.
في كتابها “الْمُتَخَيَّل بين الفنّ التشكيلي والشِعر في لبنان” – L’Imaginaire dans l’Art et la Poésie au Liban) قَدَّمَت سمر ناهض الحكيم لتراث لبنانَ الشعريّ والتشكيليّ لوحةً أكاديمية تبقى منحوتةً في ذاكرة القصيدة، شهادةً على غنىً أدبِيٍّ وفنّيٍّ إبداعيٍّ في لبنان هو الذي يُعطي لبنانَ الحضارة هويتَه الحقيقية في العالم.