كأنّما الأَلوانُ لم تَتَّسِع له فاستعاض عنها بالأبيض والأَسود ليرسم على صفحاته البيض ملامح مدينته التاريخية بعلبك، أَصدرَها في كتاب “بعلبك بالأبيض والأسود” نشرَتْهُ “دار النهار” سنة 2006 بطبعة أنيقةٍ قطْعاً فنياً مُربَّعاً من 80 صفحة تتمازجُ فيها نصُوصٌ شِعريةٌ ورسْماتٌ شاعريةٌ ثمانون بالفحم والحبر تَخُطُّ بالأسود تعابيرَ ريشةٍ عاشقةٍ على بَياض المدينة.
هذا هو مازن الرفاعي الذي استهلّ كتابه بِنداء: “أَيتها الأمكنةُ، أيتها العصافيرُ، إحكي لي عن طفولتي، عن أفراحي وأحزاني، واصرُخي… لعَلِّيَ استفيقُ من صمتي”.
ومن مقدمة طلال سلمان التي تَجاوَزَ فيها لقبَ مازن الرفاعي العلْمي مهندساً إلى اعترافه أنّ “الرسّام فيه يكتب شعراً والشاعرَ فيه يرسم بالكلمة واللون”، إلى خاتمة طلال حيدر التي اعترف فيها أنّ “لبعلبكّ الحنون وجهاً لم يقاربْه أحدٌ كما قاربه مازن الرفاعي”، يتهادى الكتابُ صفحةً صفحةً بإخراجٍ طباعيٍّ جميلٍ، وتُطلّ من كلّ صفحةٍ باقةُ كلماتٍ عاطفيةٍ أو رسْمةُ نكهةٍ بعلبكيّة تحمل إلى مدينة الشمس شعاعاتٍ من جمالٍ زنّرَها هذا الكتابُ بعاطفةٍ بَنَويةٍ نبيلةٍ من ابن المدينة إلى أمه المدينة: “لَم أترك مدينتي، لأنها كانت دائماً أُمّي”.
وها إنه يبحث عنها وهو في قلبها: “أمدينتي واقعٌ أم خيال؟ أهي ما نحمله في مخيّلتنا أم مزيجٌ من واقع وخيال؟ إنها الضوءُ والظلُّ معاً، إنها الأبيضُ والأسوَدُ معاً، إنها الإلهة والإنسان معاً، إنها المدينة الذاكِرةُ والتاريخُ الذاكر، تاريخٌ مقيمٌ في الحاضر، وحاضرٌ يلفّ الماضي بلياليه القمَرية وبيوت الطين والحارات القديمة وأشجار البساتين. إنها خارجَ المكان والزمان، وتستحقُّ البقاءَ في كليهما: الحقيقة والجمال”.
ويرى إلى نواحي المدينةِ الحاملةِ في انبساطها وَسَاعةَ التاريخ، فتأْرجُ منها طفولتُه كما يفوحُ النور من وجه الشمس، فيعترف: “جميلةٌ منذ طلوع الشمس، جميلةٌ كطلوع النهار، كخريفٍ أصفرَ من عمري، جميلةٌ كسماء صافية، جميلةٌ لأن القمر منكِ يستحي، والعصافيرَ تهتدي إلى بيوتها. لِمَ القلقُ وفي السماء عصافيرُ، والليل يختبئُ في النهار، ويولدُ الأبيضُ من جديد؟ لِم القلقُ، وجميلةٌ أنتِ منذ البدايات، حتى في مهدكِ أنتِ جميلة. يا حبيبتي لأنك تشبهين أمي: سأبْحَث عنكِ أبحثُ، أبحثُ، وسأنحني فوق ترابِكِ، وأبكي”.
ويتوغّل في حبِّه أكثر، فيُعلي في باله شموخَ مدينته الشامخة: “في معبد باخوس أسمع هديراً مدوِّياً، وأشعر بالصمت. تنتابُني أسئلةٌ كثيرةٌ ويَسكُنني سكونٌ عظيمٌ لم أَجدْه في أيِّ مكان آخر. عن تاريخكِ لا تسأليني لأنكِ لا تُشبهين أحداً، لأنكِ من الأسماء الأُولى. حدَّثوني عنكِ تاريخاً لم يولَدْ بعد. لا تتباهَي كثيراً: شموخُكِ لا يُعفيكِ من تَواضُعِكِ، على جُدرانكِ يُخربش الظِلّ، وعليكِ ترسُم الشمسُ أَشكالَها، والحبُّ لا طعمَ له إن لم يتعلَّمْ منكِ كيف الْحُبُّ يكونُ”.
وحين تَخونُه الألوانُ كي يعبِّر، يعترفُ إلى مدينته: “عُذراً إذا خاطبتُكِ بالأسود وكتبتُكِ بِحبر النسيان. أُفتِّش عن ألواني لا أجدها، وأنا أشتاقُ إليكِ، إلى بساتينَ فيكِ لا تنتهي، إلى حاراتٍ فيكِ لا تنام، إلى شَجَرِكِ الأخضر وجُنون سُنُونُوّاتِكِ. لا تغضبي مني إذا تَمرّدتُ على طفولتي، على أزرقِ سمائكِ. أُفتش عن ألواني لا أجدُها، وأشتاقُ إليكِ كما أشتاقُ إلى أُمي”.
كتابٌ بالكلمةِ والأسودِ والأبيض، لكنه يفوحُ أَلواناً من العاطفة الحَنون، بُنُوَّةً ووفاءً، لِمدينتنا التاريخية التي بَثَّها ابنُها مازن الرفاعي كلَّ عاطفتهِ فأَطْلَعَ منها صفحاتٍ دافئةً بالأبيض والأسودِ يولَدُ اللونُ من سَوادها، ومن بياضِها تَنبُتُ سنابلُ الحبّ إلى مدينةٍ ليست عنوانَ مَكانها وحسب، بل باتت على الصفحة الأولى من التاريخ عنواناً مضيئاً لتاريخ لبنان.