“يصعُب إيجادُ مكان لهذا النصّ في الأنواع الأدبية. فهو ليس قصةً ولا سيرةً ولا روايةً ولا حكايةً، وليس موعظةً في الفلسفة أو الاجتماع أو الدين، ومع ذلك هو مزيجٌ من هذه جميعاً، فيه السردُ الطليّ، والتصويرُ البهي، والشاعريةُ الرهيفة، والفكرُ الصافي، ونفْسٌ لا ترتوي من الخير، في أسلوب كحبّات الندى على ورق الياسمين، أو كخفق جناحٍ فوق جفون وردة”.
بهذه العبارات اختصر إدوار حنين كتاب الأب منصور لبكي “صبيّ لبنان” الذي صدر في الفرنسية (منشورات فايار- باريس 1986) بعنوان “L’Enfant du Liban – Les chemins de nulle part” وصدرت ترجمتُه إلى العربية بتوقيع جورج مصروعه سنة 1988 (منشورات “لوتدحال” و”سكول برس”، في 192 صفحة قطعاً وسطاً) تتصدّرها مقدّمة المترجم، فتمهيدٌ من الناشر فايار، فمقدمةٌ خاصة بالطبعة الفرنسية لعضو الأكاديميا الفرنسية جاك دو بوربون بوسّيه. ونال الكتاب في فرنسا 4 جوائز: جائزة أكاديميا العلوم الأخلاقية والسياسية، جائزة سانت إكزوپري، جائزة الفرنكوفونيا، وجائزة جريدة “لا كْرْوَى”.
يروي الكتاب قصة وَلَدَين يتيمَين من لبنان: نسيم وجاد، الأول فقَدَ والديه معاً في قصف مباشر على منزلهما، والآخر فقَد أمّه وبقي له والده يحنّ عليه، ويحنو كذلك على رفيقه نسيم، فكأنّ لهذا الوالد يتيمَين توأَمَين.
تجري أحداثُ الرواية في إطار متسلسل بين الضيعة والطبيعة والعائلة والميتم، وتدور معظم أحداثها داخل ذاك الميتم، تهتمّ فيه الأخت ماري بشؤون الولدَين اللذين ساعدَتْهُما صداقتُهما في الميتم أن يتجاوزا حدود اليأس إلى التشبُّث بالأمل، بالإيمان، بالرجاء الذي يُنقذ من كلّ إحباط، فعوّض لهما عن حنان الأُم ما لَقِيَاهُ من حب الضيعة والوطن.
خاتمة الرواية عبرةٌ بليغةٌ من الكاهن الكاتب، رسم فيها بارقةَ رجاءٍ للوطن المصلوب على جلجلة الحرب، ونسَجَ من الإيمان لدى الولدَين حُبّ الحياة من جديد، وكيف يتوغَّل داخل جذور الإنسان في أرض الوطن، ليُطْلِعَ منها نوراً لا يخبو ولا يغيب. كل ذلك في لغةٍ بسيطةٍ على عُمق، سَلِسَةٍ على جَمال، تُذكّر ببراعة سانت إكزوپري في “أميره الصغير”.
فها هو نسيم يروي في براءة الأطفال: “كنتُ في السادسة من عمري يوم حملني جدّي على كتفيه، وأصعدَني إلى قمة التلّة. وكم كانت دهشتي عظيمة: اكتشفتُ أوديةً وجبالاً بعيدةً غيرَ التي كنت أراها من بيتنا. رأيتُ قمماً تقترب من السماء. سألتُ جِدُّو: “ما هذا كلُّه”؟ فأجابني: “هذا وطنُنا لبنان”. قلتُ له: “أليست ضيعتُنا هي كلّ ما في الدنيا”؟ فقال جِدُّو: “كلاّ يا حبيبي، ضيعتُنا هي المكان الذي تجمّعَت فيه بيوتُنا وبيوتُ الذين تعرفهم وتراهم كل يوم. ضيعتُنا جُزءٌ صغيرٌ من وطننا”. سألتُه مشيراً بسبابتي حولنا: “وهذه البيوت هنا وهناك وهنالك، أليست أيضاً ضيعتنا”؟ فأجابني: “لا. هذه ضياع أُخرى لكلّ واحدةٍ اسمها، وهي كلُّها في وطننا لبنان”. قلتُ له: “والبحرُ أيضاً وطننا”؟ فقال: “لا. ليس لنا منه سوى قطعة قريبة من الشاطئ. ومن هذا البحر نَصِلُ إلى بلدان وبحار عديدة وبعيدة. ووراء هذه الجبال بلدانٌ أخرى وبحارٌ أخرى بعيدة”. عندها قلتُ له: “إذاً فضيعتُنا ليست الأرض كلَّها!”. فقال: “لا. ضيعتُنا في وطننا هي أرضُنا نحن، والأرضُ التي نملكُها ولا نتخلَّى عنها”.
في ذلك المساء، لما أَزِفَتْ ساعةُ النوم، أحسسْتُ بضيعتي تَحضُنني كذرَاعَي أُمّي.
بهذه البراءة الطفولية قاربَ الأب منصور لبكي قلوبَ الأولاد في روايته “صبيّ لبنان”، ومرّر فيها رسالةَ الوطن والإيمان والرجاء، حتى لَهْيَ روايةٌ تُقرأ في المدارس والبيوت، يبقى منها الكثيرُ في ذاكرة الأولاد، يكبَرون على حُبّ الوطن وعلى الإخاء والصداقة، وقيَمٍ إنسانيةٍ عُليا تَجعلُ المواطنينَ إِخوةً، والوطنَ سَماءً، والحفاظَ على الوطن صلاةً رديفةَ كُلِّ صَلاة.