كنا معاً عصرَ نهارٍ ربيعيٍّ، نمشي على الكورنيش، عن يميننا شمس تتهَيَّأُ كي تلقي رأْسها على مخدة البحر، أمامنا ولداه عُمَر وزينب، وحولنا مُشاةُ الكورنيش في رياضتهم اليومية. فجأةً وقف، تطلَّع بالشمس المائلة، وقال: “لا شمسَ تغيب بهذا الجمال كما في لبنان”.
ولاحقاً، سنواتٍ طويلةً بعدها، كنتُ أَتناول فطور الصباح عنده في لندن، فاستعادَ أيامنا معاً في بيروت، ومِشْيَتنا على الكورنيش في بيروت، ولقاءاتنا في مكتبه من بناية الناشرين في بيروت. وبينما في الخارج ضبابُ لندن يلف الشوارع، كرّر لي العبارة ذاتها: “لا شمس في الدنيا بِجمال شمس لبنان”. كان يومَها انتقل من جنيڤ إلى لندن، وكنتُ أنا أَزورها قبل أن أعود إلى منآي المؤقت على بحيرة الليمون في فلوريدا. كلانا إذاً كان بعيداً عن لبنان ولؤلؤته بيروت.
اليوم، أتذكّره حرفاً في كتاب، فأفتح كتاب وفائه النبيل: “إلى بيروت الأُنثى مع حبي”، وأقرأُ منه، مسترجعاً عينيه اللتين كم كانتا تشرقان بالفرح كلما ذَكَر أُفق الحرية في لبنان، وتَفَتُّحَ الغاردينيا في غيوم بيروت.
في مقدمة الكتاب يعترف بحبه بيروت:
“لا يمكن أن أَتلفّظ باسم بيروت إلاّ ويرتعش عصفور في القلب، بيروتُكم وبيروتي، حبُّكم وحبي، تاريخكُم وتاريخي، خزانةُ أحلامكم وخزانةُ أحلامي… بيروتُ البجعة البيضاء، والفراشةُ البحرية الجناحين، الخرافيةُ الألوان، بيروتُ صَبَوات الأخطل الصغير، ونَمْنمات أمين نخلة وصلوات فيروز…”.
ويروح في قصائده يهدهد بيروت، فيكتب إلى صديقته:
“يا بعيدَه… أيَّ أخبار تريدين عن الشِعر وعني
أخذوا بيروت مني
سرقوا منقوشة الزعتر من بين يدَينا
سرقوا الكورنيش والأصداف والرمل الذي كان يغطي جسدَينا
سرقوا منا زمان الشعر يا لؤلؤتي، والكتاباتِ التي تسقط مثل الكرَز الأحمر من بين الأصابعْ
سرقوا رائحة البنّ وأحلامَ المقاهي وقناديلَ الشوارعْ…
أين بيروت التي تختال بالقبّعة الزرقاء مثل الملكَة؟
أين بيروتُ التي كانت على أوراقنا ترقص مثل السمكَة؟
ضيّعوا بيروت يا سيدتي… ضيَّعوا أنفسَهم إذ ضيَّعوها
سقطَت كالخاتم السحريِّ في الماء ولم يلتقطوها…
آه يا بيروتُ، يا أنثايَ من بين ملايين النساءْ
يا رحيلاً برتقالياً على وردٍ وبرقوقٍ وماءْ
يا طموحي عندما أَكتب أشعاري لتقريب السماء”.
وفي قصيدة أخرى يثور من شدّة حُبّه بيروت:
آه يا بيروتُ يا صاحبةَ القلب الذهَبْ
سامِحينا إن جعلناكِ وَقوداً وحطَبْ
للخلافات التي تنهش من لحم العربْ… منذ أن كان العربْ.
آه يا أعظمَ بيروت ويا أطهرَ بيروت ويا أطيبَ بيروت
أتيناكِ… أتينا
نلثم الأرض التي أحجارها تكتُب شِعرا
والتي حيطانها تكتُب شِعرا
والتي أَشجارها تكتُب شِعرا
وأخذناكِ على الصدر حقولاً وعصافير وكورنيشاً وبَحرا
وصرخنا كالمجانين على سطح السفينه
أنتِ بيروتُ ولا بيروتَ أُخرى”.
ومن حبِّه بيروت يشهَر حبَّه لبنان فيتنهَّد شعراً يتقطّر من حنين الوفاء:
كان لبنــان لكم مروحةً تنشُـر الألوان والظلّ الظليلا
كم هربتم من صحاراكم إليه تطلبُـون الماءَ والوجهَ الجميلا
واغتسلتُــم بندى غاباته واختبـأتُم بـين جفنيه طويلا
وشربتُــم من خوابيه نبيذاً وسمعتُـم من شَـواديه هديلا
واقتنَيتم شَمسـه لُـؤْلُـؤَةً وركبتُـم أنجم الليـل خيولا
إنه علّمَــكم أن تعشقوا لم يكن لبنان في العشـق بخيلا
إنه علّمَــكم أن تـقرأوا هل تقولون له: “شكراً جزيلا”؟
آه يا عشّاقَ بيروت القدامى هل وجدتم بعد بيروت البديلا؟
إن يَمتْ لبنــان مُتُّم معه كلُّ مَــن يقتله كان القتيلا
كُـلُّ قبـح فيه قبح فيكُمُ فأعيدوه كما كـــان جميلا
إنّ كَـــوناً ليس لبنان به سوف يبقى عدَماً أو مستحيلا
كلُّ مـا يطلبه لبنان منكم أن تُـحبّوه… تُـحبُّوه قليلا”.
هذا الكلام النبيل، كم يحتاجُه لبنانُ اليوم، وهو في عين العاصفة.
معه حق نزار: “كلُّ ما يطلبُهُ لبنانُ منكم أَن تُحبّوه… تُحبّوه قليلا”.
نزار قباني: تحيتي إليك.
قطفتُ اليوم حرفاً من كتابك،
وحروفُكَ نبعٌ لا ينضب،
وكتابك شمس لا تغيب،
ووفاؤُك للبنان نَجمةٌ مُشعَّةٌ أبداً في سماء الشِعر.