“ما أصعب أن يكتب الإنسان تاريخ فراشة، لأن تاريخ الفراشات مكتوبٌ على أجنحتها بالأخضر والأزرق والأحمر. أما هي، ففراشة منقوشةٌ بالشِعر من رأسها حتى قدميها. وأنا طول عمري أحسَبُ ألفَ حسابٍ قبل أن ألمس جناحَي فراشة، حتى لا يُهرهِرَ على أصابعي غبارُ القمر”.
بهذه الكلمات الشاعرية الجميلة ودَّع نزار قباني شاعرتنا اللبنانية ناديا تويني، عند غيابها عن ثمانيةٍ وأربعين ربيعاً،
هي التي وُلدت سنة 1935،
وبعد عِشرين سنةً تزوَّجَت غسّان تويني سنة 1954،
وبعد عَشْر سنواتٍ أصدرَت كتابَها الشعريّ الأوّل “النصوص الشقراء” سنة 1963،
وبعد عَشْر سنواتٍ أخرى نالت جائزة الأكاديميا الفرنسية سنة 1973،
وبعد عَشْر سنوات أَخيرةٍ سقطت تحت ضَربة السرطان سنة 1983،
تاركةً في الفرنسيَّة باقةَ كتُب شِعرية شفيفةٍ مثلَها،
نفتح منها اليوم قبلَ الأخير، الصادرَ عن “دار النهار” سنة 1979:
“لبنان: عشرون قصيدةً إلى حُبٍ واحد” (Liban: 20 poèmes pour un Amour)،
وفيه باقةُ قصائدَ عن لبنان كما أحبَّته ناديا تويني وكتبَتْ عنه وغنّته بأجمل الشعر.
الكتابُ لوحةُ جغرافيا شعريةٍ في عشرين قصيدةً هي: “بلادي”، “بيروت”، “بيبلوس”، “طرابلس”، “صيدا”، “صُور”، “الجبل اللبناني”، “نساء بلادي”، “الشوف”، “دير القمر”، “بيت الدين”، “جسر القاضي”، “رجال بلادي”، “عنّايا”، “البلمند”، “بعلبك”، “عنجر”، “الأرز”، “الجنوب”، و”نزهة”.
ولأنّ أجملَ ما يُحكى عن الشاعرة: قراءةُ شعرها،
نفتح هذا الكتاب الصغير الجميل الذي تزيِّنُ غلافَه وصفحاته الداخلية رسوم الفنان الكبير أمين الباشا،
ونقرأ من القصائد بعض فَلَذاتٍ في ترجمتها العربية.
من قصيدة “بلادي”، نقرأ:
“بلادي قلبُ الشرق،
فيها يهيمن الأبيض،
اختارَ سُكناها الأصفر والصلصاليُّ والزهريّ،
فيها الشجرةُ فريدةٌ من نوعها،
وفيها الإنسان يعيد افتكار الفكر…
هي ذي بلادي:
حدودُها من حقدٍ وشمس،
الحياة فيها بلادٌ بعيدة،
ذاكرتُها رجالٌ قُساةٌ كالجوع،
حروبُها أقدم من مياه الأردن،
حين تستيقظُ تنثر وجهها على أبيض الأرض.
بلادي رهيفةٌ كعصفور القمر،
ملوّنةٌ كطائرةِ الورق،
تصهل فيها الرياح كعُقدة الأفعى،
وبشحطةِ قلمٍ واحدةٍ تُعيد صياغة المشهد.
بلادي تتكسَّر كأغصانِ موجة،
صيفُها شتاءٌ أكيد،
وهي دائمةُ السَفر بين حُلمٍ وصباح”.
ومن قصيدتها “الأرز” نقرأ:
“أحيّيكَ يا أرز بلادي،
يا البسيطُ كجَذْرٍ،
يَحرس صمتَكَ الليل،
لضجيجِك مهابةٌ كالكلمات،
أنتَ الحاملُ حِداد الأحياء لأن عكس الزمن هو الزمن.
أنت الوحيد كنشيد الأناشيد،
يلبسك البرد،
والسماءُ على مَطالِ يدِك.
اليومَ غَدُ أمسِك،
وعلى جسدِك تنام الكواكب.
أحبُّكَ مثلما أَتَنَفَّسُ،
أيها الطيِّبُ كالقصيدة الأُولى”.
ومن قصيدتها “بيبلوس” نقرأ:
“مُطْمَئِنَّةٌ كحكيم،
عريقةٌ كالحقيقة.
بيبلوس: يا حُبّيَ الْـ بِلون العَنبر،
أحياؤُكِ يُجدِّدها الهواءُ من ذاكرةٍ إلى ذاكرة،
ويهدأُ فيها عندما يجلسُ المساء كي يستريح.
على رصيفِ مرفإِكِ، تقف الشمس فجراً في وجه البحر قبل أن يتلقّاها الأُفُق،
فتظلُّ تولدُ كلَّ صباحٍ شيخةً كالأرض.
بيبلوس: يا حُبّيَ المتّوشِّحَ دغشةَ الغياب،
حين قناديلُ الليل تضيءُ دروبَ الزمان،
نلمحُ في قعر مياهكِ دُهوراً شفّافةً تتعانق.
بيبلوس: يا حُبّيّ الذي يتنفَّس صمتاً،
إسمعي معي عودةَ المراكب مُحَمَّلَةً رملاً وغَرْباً ومُحيطاتٍ،
واسمعي في عينيَّ ولادةَ الأبجدية.
يا بيبلوس، يا حُبّيَ الكبير: أنتِ النّبضةُ الأجملُ في قلب الزمان”.
ناديا تويني، نَقرأَ من شِعرِها ولا نرتوي، فقصائِدُها كينابيعِ لبنان: تتسلسَلُ من القلب لتَحُطّ في القلب.
وكتابُها في الفرنسية “لبنان – عشرون قصيدةً إلى حُبّ واحد” (Liban: 20 poèmes pour un Amour)،
تَميمةٌ شِعريةٌ جميلةٌ يَجْدُر بكلّ لبناني أن يَحفَظَها في قلبه وَوِجدانه وذاكرتِه،
دفقَةَ حُبٍّ كبيرٍ لهذا الوطن الغالي الذي يعيشُه الشعراءُ قصيدةً مستدامة، ويعيش فيه الشِعر حياةً مستدامة.
وما أجملَ الوطنَ الذي، كما لبنان، يَسكنُ ذاكرةَ الشِعر، وتَمْتَمَاتِ الشعراء.