في 368 صفحة قطعاً كبيراً، تَمكَّن رئيف شويري، في لغةٍ فرنسيةٍ أنيقةٍ متمكِّنة، من نسج رواية بيُوغرافيَّة عنوانُها “نديم – لبنانٌ كريم”، صدَرَت قبل فترةٍ في فرنسا عن منشورات “Les 2 Encres”، في سلسلتها “مذكَّرات الحبر”.
الكتابُ سيرةُ “نديم” أستاذ الأنتروپولوجيا في جامعة لندن، من أَصل لبناني، يعيش في العاصمة البريطانية التي هاجر إليها قبل سنواتٍ، وها جاء ظرفٌ يَدعُوه للعودة إلى أرضه الأم: ففيما كان مساءَ يومٍ يفتح بريده، وجد رسالةً عليها طابعٌ بريديٌّ لبناني، مكتوبةً بطريقة “براي” للمكفوفين، تستعجله العودة إلى لبنان لأن أُمَّه المصابة بالإِلزهايمر هي في وضعٍ صحيٍّ حَرِجٍ، وفي أيامها الأخيرة.
بين ترَدُّدِه في العودة لإرضاء ضميره البَنويّ تِجاه أمه الفلسطينية (لم يعرفها طويلاً لأنها تركته وهو في عامه السابع وتزوجت سريعاً بعد مقتل والده برصاصة قنّاص سنة 1975 في بداية حرب لبنان)، وبين رفضِهِ العودةَ إلى بلدٍ لا يحفظ منه إلاّ ذكرياتٍ مؤلمةً مأْساوية، يَمرُّ عبر صفحات الرواية شريطُ طفولته التاعسة بِما فيها من أَيام حلوة ومريرة، بدءاً من رفضِه العيشَ مع أمه وزوجها، حتى التجائه إلى مؤسسة “الكفاءات” احتضنه فيها مؤسسها نديم شويري، ورعاه كما كان يرعى جميع المنتسبين إليها من ذوي الاحتياجات الخاصة.
من أبرز مراحل سنواته في “الكفاءات” تَعَرُّفُهُ إلى تشارلي، وهو ضرير فلسطيني عانى التشرُّد منذ تهجير عائلته من القدس الشرقية صباح 14 أيار 1948، ولُجوئه إلى بيت جالا تسع عشرة سنةً حتى وقعَت حرب حزيران 1967 فتَهَجَّرَ مُجدَّداً عبر الجليل إلى جنوب لبنان في مخيم عين الحلوة قرب صيدا، أَشهراً قليلةً تَمّ نقلُهُ بعدها سنة 1968 إلى العاصمة بيروت، في حي كرم الزيتون، عاملاً في مصنع جلديّات لذوي الاحتياجات الخاصة أسّسه سنة 1964 لهدفٍ خيريٍّ إنسانيٍّ السيد نديم شويري (تَوَسَّعَ أفقُهُ الخيريُّ الإنساني لاحقاً إلى مؤسسة “الكفاءات”). هناك تعرّف نديم بتشارلي، ودامت صداقتُهُما سنينَ طويلةً حتى 1986 سنةَ نَجاحِه في البكالوريا وقبولِهِ عرْضاً من عمّه خالد بالسفر لإكمال دراسته في لندن.
وهكذا، بعد إحدى وعشرين سنةً هناك، قرّر نديم العودة إلى لبنان لرؤية أمه ولو انها كانت هجَرَتْهُ بقسوة شديدة، وللِقاء صديقه القديم شارلي مُرسِلِ تلك الرسالة، ولقاءِ مؤسس “الكفاءات” نديم شويري وابنه رئيف وابنته ميريام.
في “الكفاءات” تعرَّف إلى ما قاساه لبنان و”الكفاءات” في سنوات الحرب، ولَمسَ الإيمانَ بهذا الوطن وتشبُّثَ أهله ببقائه والدفاعِ عنه كلٌّ مِن موقعه. عاد إليه الحنين من التذكار، فامّحت من قلبه الصُوَرُ المؤلِمةُ عن سنوات صباه في لبنان، وكاد يغفِر لأمه هجْرَها إياه، لولا أنّه تأخّر لأنّ أمه، تحت تأثير الإلزهايمر، كانت فَقَدَت كلّ إدراك، ولم تَمضِ أيامٌ قليلةٌ حتى كان نديم وصديقُه القديم تشارلي ومؤسسُ “الكفاءات” نديم شويري، يرافقون جثمانها إلى مثواهُ الأخير.
رواية “نديم – لبنان كريم”، في سردها هُجراتِ رجالٍ ونساءٍ ونسج حكاياتهم وآلامهم وأفراحهم، صورةٌ نابضةٌ لنصف قرنٍ من اضطراباتِ شرقٍ عربِيٍّ مُمزَّق، عبر سردٍ تَجري أحداثُهُ في خطَّين متلازِمَين: أحدُهما روائي والآخَرُ توثيقي، يلتقيان عند نقطةٍ مشترَكَةٍ تكشف صفحةً تاريخيةً أليمةً لفترةٍ صعبةٍ داميةٍ عاشها مواطنون معذَّبون في لبنان وفلسطين.
ولعلّ أفضلَ حُلَّةٍ لثَوب التاريخ: أن يُنسَج في خيطٍ روائيٍّ سَلِسٍ وواضحٍ كما عرَفَ أن ينسجه، في روايته هذه، رئيف شويري.