حرف من كتاب- الحلقة 3
“ألـْ لُبنان”- الْمُصوِّر السكوتلندي العالَمي ماكس ميليغان
الأحد 27 شباط 2011

“إلى أصدقائي الذين غمروني بمحبّتهم حتى جعلوني أَشعر أنْ لَم أَعُد أُريد أن أغادر وطنهم”.
بهذه العبارة المؤثِّرة كتبَ الْمُصوِّر السكوتلندي العالَمي ماكس ميليغان إهداء كتابِه الجديد “ألْـ لُبنان”، الذي صدر في الإنكليزية عن منشورات “بيبلوس” في 296 صفحة حجماً موسوعياً كبيراً.
وماكس ميليغان أحد أشهر المصوِّرين الفوتوغرافيين في هذا العصر. بدأ حياته مصوِّراً تلڤزيونياً لِمحطة “بي بي سي”، ثم طلّق المهنة لينصرف إلى عينه والكاميرا، فباتت صوَرُهُ اليوم في كبرى الغالريات والمعارض الدائمة في العالم، وهو أصدر أربعة كتبٍ، أخيرُها كتابُه عن لبنان.
“أَلْـ لبنان” شاءه ميليغان في مقدمته “شكراناً لوطن قدَّم لي كلّ الحبّ ومشاهدَ رائعةً أَتاح لي ملياً تأَمُّلَها وتصويرَها”.
وفي المقدّمة نفسها باح ميليغان بِحُبِّه لبنانَ وطبيعتَه التي أمضى بين ربوعها سنتين في مُدُنٍ وبلداتٍ وقرىً وأماكنَ عاد إلى بعضها أكثر من مرة، وأحياناً كان يُمضي ست عشرة ساعةً يترقّب لحظة نور، أو لحظة ظِلّ، أو لَحظةً غير عادية تلتقطها كاميراهُ في ومضةٍ عابرة فتسجِّلها بِجمالٍ وشاعرية، من دون فلاش ولا فِلْتِر ولا أيِّ مكبِّر أو وسيطٍ تكنولوجي، لاعتباره أنّ “الإبداع الفوتوغرافي هو مباشرةً بين العين واللحظة”.
على الصفحة اليُسرى صورتان مع مكان التقاطهما، وعلى الصفحة اليُمنى صورةٌ مع تعليقٍ من المصور نفسه على الصفحتين، حتى ليسيح القارئ في هذا الكتاب إلى وطنٍ لا بدّ أن اللبنانيين ذاتهم يكتشفون فيه وطنهم من جديد، ويُحبّونه من جديد، كما حصل لِمُرافِقَي ميليغان في جولاته، وكانا يندهشان معه لِما يَرَيَان كأنما يزوران وطنهما للمرة الأولى.
بِهذه الروحية الْمُحِبَّة التقط ماكس ميليغان هنيهاتِ جمال رائعةً في بيروت وفاريا وطرابلس وقانا وزحلة وعيون أرغش وفقرا وحريصا وخليج جونيه وأَسواق جبيل، وسواها وسواها في كلّ لبنان، وسجّل أجمل اللحظات لوجوه ختيارةٍ خدَّدها الزمن أو وجوهِ صغارٍ نعَّمتْها الطفولة، ومغاورَ، ورعيانٍ، وعصافيرَ على أسلاك، وبُسُطٍ خضراء من سهول الربيع أو بيضاءَ من قمم الشتاء، ومحطاتِ قطار قديمةٍ ناعسةٍ من الضجر، ولآلئَ فوارةٍ من ليل مدينة، أو غيومٍ سابِحة في فضاء لبنان، وقببٍ شامِخة، ومآذنَ تقيّة، وهَيبةِ بعلبك وأعمدتِها التاريخية، وحشراتٍ على أزهار، وفراشاتٍ عاشقة فرحة، وصخورٍ ذات أشكال شاعرية، وسلحفاةٍ تتلصْلَصُ كي تَشُقّ طريقها بأمان، وذئبٍ فريد في بْصَرما يَخترق بعيونه العتمةَ في لقطة نادرة جداً أمضى ميليغان ساعاتٍ من الليل ينتظر خلفَ الدُّغل من بعيدٍ حتى يلتقط الصورة من دون فلاش الكاميرا كي لا ينفر الذئب ويهرب، وكي يكونَ شاهداً على بيئةٍ لبنانية لا تزال فيها بكارة الثروة الحيوانية النادرة إن عرفنا كيف نحافظ عليها بمحمياتٍ وواحاتٍ وصيانة.
بِهذا الحبّ في هذا الكتاب النادر، سجّل ماكس ميليغان وفاءَه للُبنان الجمال، مؤكّداً في مقدمته أنّ “العائلات في لبنان متماسكةٌ رغم بعض فسوخٍ عابرة جاءتها من حروب متلاحقةٍ لكنها ليست سوى تَماوجاتٍ وأخاديدَ مائيةٍ مضطربةٍ تُثيرها الريح على وجه المياه، أما عمْقُ المياه فهادئٌ ومتماسك، وهكذا لبنان وشعبُ لبنان”.
هذا هو “أَلْـ لُبنان” كما عنوانُ هذا الكتاب، وهو “أَلْـ لُبنان” بفرادته الغنيّة والنادرة، وطنٌ غنيٌّ ونادرٌ، سجَّله بعينِه المبدعةِ هذا المصوّر الفنان الذي، عند صدور الكتاب، قال فيه الكاتب البريطاني روبرت فيسك: “أراني ماكس ميليغان مناظرَ لم أعرفْها في لبنان طوال إقامتي فيه 34 سنة”.
وجاء في جريدة “دايلي تلغراف” البريطانية: “هذا ليس كتاباً. هذه قطعة فنية رائعة، عرف بِها ماكس ميليغان كيف يلتقط في لبنان هنيهاتٍ ملوَّنةً وجميلةً، ونادرةً في طبيعتها بين سائر مواقع الشرق الأوسط”.
وإنه فعلاً نادرٌ هذا الكتاب. فماكس ميليغان لم يلتقط هنيهاتِ المناظر في لبنان، بل التقطَ روح لبنان الإنسانيةَ قبل طبيعته الحجرية والنباتية والمائية، فنقَل بكاميراه تاريخَ لبنان وطبيعةَ لبنان وشعبَ لبنان وتقاليدَه وعاداتِه وفَرادتَه في مُحيطه. لذا جاءت صُوَرُهُ مُختلفةً لا ينافِسُها كتابُ صُورٍ تقليديٌّ آخرُ عن لبنان. وكم أصاب ماكس ميليغان بِعَنْوَنَة كتابه “أَلْـ لُبنان”! فكأنه، بهذه الـ”أل” التعريف، اختصرَ فرادةَ لبنان الذي لا يُعَرَّف إلا بِذَاته، ولا يُنْعَتُ إلا بِذَاته، ولا يَحملُ هُويةً إلاّ تلك التي تُعَرِّفُهُ بِها “أل” التعريف بـأن يكون ويبقى دائماً وأبداً … “أَلْـ لبنان”.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*