686: كسْر قضبان الزنزانة

كسْـرُ قضبان الزنزانة
السبت 5 آذار 2011
– 686 –

في يوم المرأة العالمي تعلو الأصواتُ والأفكار والندوات والمقالات
عن حقوق المرأة،
وصراعِها ضد العنف المنْزلي،
وفشَلِها بسبب التقصير في تعليمها والتربية،
ونجاحِها في عالم الأعمال والميادين الصعبة والدقيقة سياسيِّها واجتماعيِّها والثقافي والعامّ،
وقضايا كبرى كثيرة تتعلَّق بالمرأة تستيقظ في “يومها” العالمي ثم تغيب في السكون والسكوت.
كل هذا يخاطب وضع المرأة من خارج. المرأة الكائن الاجتماعي.
ونادراً ما يلتفت المعنيّون بـ”يوم المرأة” إلى المرأة من داخل، في جوّانيتها وصمْتها ومعانَياتِها بدون صرخة آخ، بعيداً عن القضايا الكبرى وانتباهاً إلى قضايا وحالاتٍ فردية.
من هذه الأخيرة حالةُ امرأة أدهشَت العالم بكسْرها حواجز تَوَحُّدِها وانطلاقها إلى العمل لمساعدة المعانين من التَّوَحُّد.
وهي عانت في طفولتها الأُولى من حالة تَوَحُّدٍ قاسية لكنها، بفضل شجاعتها وتشجيع أهلها، تَجاوزَتْها وأصبحت أُستاذة جامعية ومؤلّفة، فأعطت العالم أمثولةً في الشجاعة وفي تَخَطّي الانغلاق المعتم في حالة مَرَضيّةٍ تسجن ضحيَّتها في زنزانة داخلية غائرة وتمنع عليها كلّ علاقة اجتماعية وإنسانية مع السوى.
تامْپِل غْرانْدِن (مولودة في بوسطن سنة 1947) هي اليوم أُستاذةُ علم الحيوان في جامعة ولاية كولورادو، وصاحبةُ كتبٍ سجّلت مراراً أرقام “الأكثر مبيعاً”،
إلى كونها مستشارة في شؤون العالم الحيواني لدى مؤسسات أميركية كبرى، واختصاصية في معالجة حالات التَّوَحّد، وهي مصمّمة “آلة العناق” لأوضاع المرضى الرهيفي الشعور الداخلي.
والعام الماضي (2010) صنّفتها مجلة الـ”تايم”، في باب “الأبطال”، بين أكثر 100 شخصية في العالم تأْثيراً في المجتمع.
هذا عن وجهها الحالي الأبيض.
أما وجهُها السابق المتجهّم، فظهر حين شخّص الطب حالة تَوَحُّد لديها منذ هي طفلةٌ في الثالثة نتيجة “عطب دماغي” استوجب وضعها في دار حضانة خاصة بذوي الاحتياجات الخاصة، مع اختصاصية تعلّمها النطق، حتى إذا شبّت كانت موضع هزءٍ بين رفيقاتها في المرحلتين الابتدائية والثانوية، ما خلق في قلبها عقدة نقص مريرة فادحة.
لكنها قاومت حتى نالت درجة الماجستر من جامعة أريزونا (1975) والدكتوراه من جامعة إيلينوي على أطروحة عن علم الحيوان (1989).
في طفولتها كانت ترسم دروباً آمنةً للبقرة وهي مأخوذة إلى المسلخ، وكانت بذلك تقترب من عالم الحيوان الذي تخصّصت به لاحقاً، حتى وقفَت سنة 1985 لدى مؤتمر “جمعية المتوحِّدين في أميركا” تروي تجربتها الخاصة التي أدهشت سامعيها وأبكت معظمهم حين وصفَت حالة التوَحُّد الداخلية المعيقة بأنها كمربوط إلى سكة الحديد يرى القطار واصلاً إليه ولا يستطيع منه هروباً. وكانت تلك أول مرة تنجح الجمعية في جعل مريض بالتوحُّد يشرح حالته، لأن هذا غير مألوف بين متوحِّدين يلزمون الصمت العميق، ويخجلون من التكلُّم، أو يُشيحون عن مُجتمع ينظر إليهم بعيون فارهة فُضولية.
ومنذئذ اشتهرت تامْپِل غْرانْدِن بين أوساط المتوحّدين والجمعيات المختصة بهذا المرض الصعب،
وذكَرَها أوليڤر ساكس في كتابه الأنتروبولوجي عن المتوحِّدين،
وظهرَت في برامج تلڤزيونية عدّة (أشهرها “لاري كنغ يستقبل”)،
وصدرت عنها مقالات في صحف ومجلات كبرى (“تايم”، “فوربس”، “نيويورك تايمز”،…)،
وصدر عنها الفيلم الوثائقي “المرأة التي تفكِّر مثل البقرة” (بي بي سي 2006)،
واحتلّت صورتها المجتمع الأميركي الواسع على أنها المرأة التي “تجاوزت عقدة الانعزال والتوحُّد وخرجَت إلى المجتمع الواسع، لا لتحكي عن تجربتها وحسب، بل لتسهم في معالجة حالات التوحُّد لدى المصابين به وتنقذهم من سجنهم الداخلي”.
المرأة في يومها العالمي؟
هنا دلالاته العليا وعلاماته السامية،
على صورة تامْپِل غْرانْدِن مثال المرأة التي بتجاوُزها الفردي تنتصر على عاهتها أو إعاقتها،
لتكون جديرة بالحياة المعطاة إليها،
وتصبح صورةً لمجتمعها وللعالم بخروجها من زنزانة التوحُّد إلى رحابة العلاج،
فيتعلّم منها الجميع كيف يكون كَسْرُ قضبان الزنزانة.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*