عن الفئران والرجال
السبت 26 شباط 2011
– 685 –
لا أَعرف قائداً في التاريخ ولا زعيماً ولا رئيساً نعَتَ شعبه بـ”الفئران” و”الجرذان”
مهما بلغَت نيرونيَّتُه ونرجسيَّتُه،
ومهما تعاظمَت في شخصيّته المتغطرسة نوباتُ جنون العظمة.
هذا الكلام الرهيب
من رئيس دولة يتحدّى شعبه والمجتمع الدولي
فيأتي بمرتزقة أغراب يواجه بهم مواطنيه،
ويقصف مُحتشدين في الساحات يطالبون بالحرية،
ذكّرني بالشاعر الرومنطيقي السكوتلندي روبرت بُرنْزْ (1759-1796)
وبهذا البيت في إحدى قصائده: “أكثرُ المخطّطات تصميماً لدى الفئران والرجال، غالباً ما ليست تتحقّق”.
وهو البيت الذي أوحى إلى الروائي الأميركي جون شتاينبِك (1902-1968، حامل نوبل للآداب سنة 1962) كتابة روايته الشهيرة “عن الفئران والرجال” التي، لدى صدورها (1937)، شرح عنها إلى صديق له: “كتبْتُها متأَثِّراً بصدامات دموية وحوادث قتل جماعي وقَعَت في شوارع ساليناس (كاليفورنيا)، المدينة الغالية التي وُلِدْتُ فيها”.
وفي ذاك العام نفسه نال على روايته المؤثِّرة “جائزة نُقّاد المسرح في نيويورك”.
ولاحقاً تحوّلت الرواية إلى عمل مسرحي وإلى أكثر من سيناريو لأفلام سينمائية واسعة النجاح.
ما الداعي إلى هذا الاستذكار اليوم؟
في الرواية رمزية عميقةٌ خلف بساطتها وسلاسة أحداثها.
فهي تشير إلى عمق الإنسان ومشاعره وظروف حياته:
بطل الرواية ليني سْمُول يتقاسم مع رفيقه جورج ميلتون حلم تأسيس مزرعة صغيرة لتربية الأرانب.
وبلوغاً إلى تحقيقه يعملان معاً لدى مزرعة لتربية المواشي في كاليفورنيا.
كان ليني يتمتع بقُوّة جسدية مناقضةٍ تماماً ضعفَه العقلي، ومزاجه أن يلمس الأجسام الناعمة.
وكان يُبْقي دائماً في جيبه على فأْرة يتلذّذ بالضغط عليها حتى قتْلِها، ليشعر بقوّته من دون أن يواجه ما يقاوم هذه القوة.
ومساء أحد الأيام،
حين روى مزاجه هذا للسيدة پورتي (زوجة ابن صاحب المزرعة)
استأنسَت برغبته تلك
وطلبَت منه أن يلمس شعرها الناعم ففعل،
غير أنه
– وهو الضعيف عقلياً وليس لديه ميزان ولا معيار لقياس الضعف والقوة، واعتاد ألاّ يقاومه أيُّ جسم ناعم –
شَدَّ على شعر المرأة فخَنَقَها حتى الموت،
وهرب يلتجئ في غرفة رفيقه جورج الذي، حين علم بالأمر، أطلق عليه رصاصةً قاتلة قبل أن يفعل ذلك كورلي، زوج الضحية وهو ملاكم قديم.
الشاهد من هذه الحبكة أنْ ليس كلُّ جسمٍ ناعمٍ قابلاً للضغط والخنق والقهر.
والقويُّ جسَداً (أو سُلْطَةً أو ترهيباً) ليس في المطلق هو الذي يقوى على قهر الأجسام الضعيفة.
فهذه الأخيرة،
حين تكون لِمواطنين لَهُم مشاريعُهُم وطموحاتُهم وأحلامُهم،
تُفَولِذُ لهم أجسامهم
وتنقلها من الفرديّ الضئيل النحيل الضعيف إلى قوّةٍ جَماعية من زخم شعبي يتكتّل ويتّحد ويتكاتف ويتخاصر ويتعانق، فيطيح لا الحاكمَ الفردَ وحسْب، بل نظامَه كلّه برجاله ومَحاسيبه وأَزلامه و… مرتزقتِه مهما تكاثروا.
من هنا خطأُ حسابات القائد أو الزعيم أو الرئيس
حين يظنُّ أنه يتعامل مع شعبه ببغاواتٍ تطيعه،
أو أغناماً تتبعه،
أو فئراناً تحت قبضته،
لأن في شعبه قوّةً حين تَتَبَرْكَن (تنفجر بركاناً)
لا يعود الشعب فئراناً
بل ينقلب نمراً غاضباً هائجاً شرساً
ينقَضُّ على ذاك الذي يخال أنه ماردٌ عملاق،
وأنه يقود مواطنيه بالـ”ريموت كونترول”.
فصيحاتهم “بالروح بالدم” التي كم أَسْكَرَتْهُ وأرضَت نرجسيّته المريضة،
لم تكُن طوعيةً دائماً ومنصاعة دائماً لرفع يده وقبضته وصوته،
وها هم فكُّوا أغلال ديكتاتوريّته وتوتاليتاريّته وأوتوقراطيته وتيوقراطيّته،
وخرجوا من سجنه الكبير إلى ساحات المدن الكبرى التي تتَّسع للملايين ولا تتَّسع لديكتاتور واحد.
وحين يروي التاريخ عن الفئران والرجال،
يروي كذلك أن الفئران ليست دائماً فئرانية الضعف،
وأنّ الرجال ليسوا دائماً أبديّي القوّة،
وأنّ الحقيقيّةَ هي دوماً قوةُ الشعب حين يثور من أجل الحرية والعدالة.