687: “… ورُبَّ مَيْتٍ غَدا حَيّاً بهِ الحَجَرُ”

“… وَرُبَّ مَيْتٍ غَدا حَيّاً بهِ الحجَرُ”
السبت 12 آذار 2011
– 687 –

حين انتهى ميكالانج – نحو سنة 1591 – من اللمسة الأخيرة على تمثاله “موسى”، سَمَّر عينيه عليه وفجأَةً ضربَه بالإزميل صارخاً به: “أُنطُقْ”.
ذلك أنه تأَمَّل في موسى جالساً بكُلّ هَيبة:
قَدَمُهُ اليمنى على الأرض،
واليُسرى مرفوعةٌ قليلاً حتى لتظهر تفاصيل أصابعها،
يدُه اليمنى تُمسك بألواح الوصايا وبِخُصْلة من لِحيته الطويلة،
واليُسرى ترتاح على ركبته،
وعيناه ناظرتان صوب تَحت، تَبُثّان غضباً ساخطاً على شعب اليهود يراهم يعبُدون العجل المذهّب.
ومن شدّة ما أبدع إزميلُ ميكالانج في نَحْت تفاصيل الغضب على وجه موسى وفي عينيه، بدا التمثال كأنه فعلاً سـ”يَنطُق”، كما يعاينُه مَن يزور بازيليك القديس بطرس في قلب الفاتيكان.
قد تكون للتمثال رموزيةُ الإبداع في صنعه عمَلاً فنياً،
فيبقى خالداً على الزمن في كماله أو في سِرِّه،
كما تمثال إلهة الحُب الإغريقية ڤينوس دو ميلو (ق 2 ق م، واليوم في متحف اللوڤر) وسرُّه الجميلُ في الذراعين المكسورتين، وتقديراتِ أن اليدَ اليُمنى كانت مُمسكةً بالثوب المنهدل، واليسرى حاملةً في قبضتها تفاحة تتأمّلُها ڤينوس. وهو من أشهر القطع الفنية النحتية في العالم.
وقد تأخذ أهمية التمثال إلى حجمَه،
أو إلى فكرة نَحته ونَصبه وهي قد تكون وطنيةً (تمثال الحرية في نيويورك- 92 متراً)،
أو دينية (تمثال غوماتيشْفارا جنوبي الهند- 17 متراً وهو أكبر تمثال في العالم منحوت في كتلة حجرة واحدة)،
أو تاريخية أو أدبية أو جمالية أدبية (معظم التماثيل في شوارع العواصم والمدن لشعراء وأدباء وموسيقيين ومفكّرين وفلاسفة).
الدافع عادةً إلى التمثال:
استذكارُ صاحبه بِما يكون أدَّاه لوطنه أو شعبه أو الإنسانية من أثر باقٍ يُجمع عليه الوطن أو يتمثَّل به الشعب أو تتذكَّره الإنسانية في كلّ زمان ومكان.
من هنا دلالتُه الجَماعية فلا يعود مُلْكاً لصاحب التمثال أو ذويه أو قلّة من مُهتمين.
ولذا تسعى الجهات الخاصة (الأهلية أو المدنية) والجهات العامة (الرسمية أو الحكومية) إلى رفع تماثيل لكبارٍ في زمانهم يستقطبون إجماعاً طَوعياً وتقديراً عاماً لا يثيران حفيظة فئةٍ، ولا اعتراضَ جهةٍ، ولا نقدَ فريق.
يكون صاحب التمثال ذا فضل على الجميع من دون تفرقة.
لكنّ تِمثالَ السياسيّ، في وجه إجماليّ عام، لا يَخضع لهذه المعادلة،
بل قد يكون لفئة من الشعب اختارته أو اقترحتْه أو نصبتْه في ولايةٍ أو عهدٍ أو حُكْمٍ مؤاتٍ قد لا يكون بعدئذٍ مؤاتياً لصاحب التمثال في ولايةٍ تالية أو عهدٍ لاحق أو حكْمٍ جديد.
وهو هذا ما وجدناه مصيراً مأْساوياً، منذ سنوات قريبة حتى اليوم في بعض الدول العربية، حين كنا نرى تماثيل الحكّام تَملأ الشوارع والنواصي والساحات والباحات والمحطات والرواسي، يَمُرُّ بها المواطنون مُمجِّدين مُهَلِّلين مقدِّرين مبجِّلين، حتى إذا هبَّت العاصفة واقتلَعَت هذا الحاكم أو ذاك، استدار الناس ذاتُهم في المكان ذاته على التمثال ذاته وانهالوا عليه ضرباً بأحذيتهم ومطارقهم ومعاولهم وآلاتهم ومعدّاتهم، أو راحوا يشدُّون به حتى يوقعوه أرضاً ويكملوا انْهيالاً عليه كما منتقمين من أمسٍ لهم كانوا خلاله يُمجّدون التمثال مُكرَهين، ويُحَيُّون فيه صاحبَ التمثال مرغَمين، ويبتسمون للتمثال خوفاً من أزلام صاحب التمثال المتغلغلين بين الناس جواسيسَ ومُخابراتٍ ومُخبرين يتعيّشون من التلصُّص على أبناء شعبهم طمَعاً بدراهم مدسوسةٍ في جيوبهم من خزانة الحاكم.
ولعلّ هذا مصير تمثال السياسيّين في زمنٍ ما، في عهدٍ ما، في حُكْمٍ ما،
كما هو مصير ساحة باسمهم أو شارع أو مَحلّة،
لأن السياسي (الدّكتاتور أو الصالح) يكون متوهجاً في زمانه فيرتفع تمثاله (أو تتعدّد تماثيله) في البلاد،
حتى إذا انقضى زمانه (بِموته أو خلْعه أو اغتياله أو نفيه) تسقط تَماثيله سحقاً بأقدام شعبه لأن تمثاله لم يكن أمامهم تقديراً طوعياً لأفضاله بل فرضاً قسرياً لتمجيده وتأليهه.
التمثال يَخدم صاحبه حين يكون ذا صفة وطنية أو إنسانية أو إبداعية أو جمالية،
فيكون تقديراً له لا تقديساً،
ويكون استذكاراً له لا فرضاً،
أو يكون قطعة فنية خالدة هي التي تجعل كبرى العواصم والمدن في العالم زاخرة في ساحاتها العامة وشوارعها الرئيسَة بتماثيل أعلامها في تاريخها الوطني أو في حقول أعلامها المبدعين.
التمثال (من حجر أو برونز) ليس جامداً ولو هو جماد،
بل هو ناطقٌ ولو صَمَتَ صاحبه،
لأن قيمة التمثال في رمزيّته لا في صاحبه،
كما قال الياس أبو شبكة أمام تمثال فوزي معلوف:
“لَـرُبَّ حَـيٍّ غَدا في قَومه حَجَراً وَرُبَّ ميْتٍ غَدا حَيّاً بهِ الحجَرُ”

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*