987: هذا الثوب

الحلقة 987: هذا الثوب
الأربعاء 16 آذار 2011

أَذكُرُ من طفولتي منظَر عمّتي منهمكةً بِمِقَصّها الكبير في اقتطاع ملحقٍ من مجلةٍ فرنسية، تتأنّى معه في تدوير المقصّ على الثنايا والفروق والفواصل حتى تُخرج من قَصّات الصفحة المنفلشة أمامها نموذج فستانٍ أو تنورةٍ أو قميصٍ أو قطعةِ ثوب تُلصقها على قماشةٍ هيّأتْها، فتأخذ بتفصيلها وتنزع تباعاً عن القماشة الورقةَ المقصوصةَ من المجلة، وتروح تخيط القطعة القماشية ثوباً رغبَت في خياطتِه.
مع تطوُّر العصر بات الرسم التفصيلي متوفراً على موقع المجلة الإلكتروني، تُحمّله السيدة كي تفصِّلَ الثوب في بيتها وفق نموذجه، فتوفّر كُلفة خياط يقوم بخياطة هذا الثوب.
الوجه الآخر لهذه العملية التوفيرية أنّ الثياب تخرج جميعُها متشابهة، بتفصيل واحد، من نموذج واحد، في زي واحد، لجميع مَن يقتطعون الرسم التفصيلي من المجلة.
هذه الملابس التي، رغم تنوُّعها، تخرج جميعُها متشابهةً – تفصيلاً وخياطةً وقماشاً – من نموذج واحد بمقصّ واحد، ذكَّرَتْني بما نعايِنُهُ من أنظمة عربية متشابهة في الحُكْم، كالتي تهاوت في مصر وليبيا واليمن وتونس، بعدما كانت، كالثوب المفصَّل وَفق الرسم التفصيلي الجاهز، متشابهةً في التعسُّف والظلم والتوتاليتاريا والقهر والحزب الحاكم الواحد، كأنها جميعَها مقصوصةٌ عن عدد واحد من مجلة واحدة، وعلى الشعب أن يلبَسَ ما يفصِّله الحاكم، فَتَتَشَابَه الأنظمة ويتشابَه خضوعُ الشعب للأنظمة، كما تتشابَهُ الأثواب المفصلة وفق رسم تفصيلي واحدٍ من المجلة.
سوى أن الشعوب انتفضَت مؤخراً، ورفضَت أن تلبَس الثوب الواحد المفصَّل جاهزاً سلفاً من حضرة الحاكم، وتريد أن تلبَس من الأنظمة ما تفصِّله هي لا ما يفصِّله الحاكم، وأخذَت تبحَثُ عمّا يلائمها من أثوابِ حريةٍ فعليةٍ وديمقراطيةٍ حقيقيةٍ، وَفق حاجاتها هي وتطلعاتها هي وأحلامها هي، نافضةً أثواباً مُفصَّلةً على قياس الحُكّام.
اليوم، مع هذه الصحوة العربية، لم يعُد الشعبُ راضياً بثوبٍ سياسيٍّ واحدٍ موحَّدٍ مفصَّلٍ سلفاً على قياس الحاكم.
اليوم تغيَّرَ العصرُ والزمن: بينما عمتي لا تزال تلجأُ الى الرسم التفصيلي من المجلّة، اتّجه معظم الناس إلى أثواب تشبهُهم طالعةً من إبداعيةِ تفكيرهم، ومتجانسةً مع رغباتهم وأذواقهم ومُحيطهم الاجتماعي والعملي.
واليوم أيضاً تغيَّرَ العصر والزمن، فانتفضت الشعوب على ثوب حكّامها المفصَّل الجاهز، وباتت تريد أن تُفصِّلَ هي ثوباً لها على قياسها هي لا وَفْق مقصّ الحاكم، هذا الحاكم الذي بات هو نفسُه اليوم خاضعاً لِمِقَصّ الشعب.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*