إذا ذهبَت… لن تعود !
السبت 5 شباط 2011
– 682 –
فيما عيونُ الملايين في العالم شاخصةٌ باهتمامٍ إلى ميدان التحرير في القاهرة،
ثمة قلوبٌ شاخصةٌ بقلقٍ إلى جوهرة في ذاك الميدان: متحف القاهرة الذي يضمُّ ذاكرة مصر القديمة ومجدَها الخالد.
بين المتظاهرين مَداً وجَزْراً،
واحتراق جانب من حديقة المتحف،
وتَسَلُّل لصوص إلى الداخل وإتلاف مومياءتين،
كان لافتاً ذاك الحزام البشري الذي ارتجلتْه مجموعة مواطنين مصريين متنوّرين من المجتمع المدني هُرِعوا ليَحمُوا بأجسادهم هذا الْمَعْلَمَ المصريّ الرئيس من عبث الذين لا يدركون قيمة موجوداته النادرة، وفي ذاكرتهم كارثةُ نَهْب متحف بغداد عند سقوطها سنة 2003.
لم يبلغنا حتى اليوم صوتٌ واحد من سياسيي العالم يصرخ مُحذّراً للحفاظ على المتحف.
أصواتُهم ذهبت إلى النظام السياسي والديمقراطية،
فيما تصاعدت أصواتُ متاحف دولية معلنةً أنها “في حال تأهُّب قصوى إزاء الآثار المصرية المنهوبة”.
وأكثر: عرض خبراء آثار عالَميون استعدادهم للتوجُّه الى القاهرة للمساعدة في حماية كنوزها القديمة، ولرصْد الآثار المنهوبة إذا تمكَّن اللصوص من دخول المتحف وسرقة كنوز منه قد يبادر معنيون إلى بيعها لاحقاً”.
وفي كنوزه مُخَبَّآتُ عصورٍ غافية تحت التراب آلَت من وادي المومياءات وسواه
واتَّخَذَتْ لها مكانَها في المتحف،
ومكانتَها في مكتشفات العالم،
وإمكاناتِها في الإضاءة على تاريخ مصر العريق، وأخيرُها فحص الحمض النووي للفرعون توت عنخ أمون.
لذا قَلِقَ المعنيون والمهتمُّون في العالم على كنوز هذا المتحف الذي يبلغ عمره اليوم 110 سنوات.
هو أُنشئَ سنة 1902،
ويحوي في طابقيه وغُرَفِه المئة نحو 160 ألف قطعة أَثرية، في صدارتها كنْزُ توت عنخ أمون.
وهو أكبر متحف في العالم للمصريات القديمة،
وأحصَت الدولة 100 مليون زائر دخلوه خلال القرن الماضي،
لِمشاهدة روائعه الأثرية الخالدة من تماثيل ومنمنمات وحفر نافر وجدرانيات ومسلاّت وأوانٍ خزفية وزجاجية سحيقة وأدوات معدنية ونواويس،
ونحو 200 مومياء أُنشئ لها سنة 2006 مختبر خاص بالحمض النووي DNA لاكتشاف المزيد من أسرار تلك الروائع التاريخية النادرة:
أسرار التحنيط،
أسرار الأهرام،
أسرار هذا اللون الأزرق الجميل،
وسائر ألوان لا تزال تحافظ على نضارتها بعد مئات السنوات الهاجعة،
وأسرار كثيرة لم تنكشف بعد.
في الحرب العالمية الثانية، أُعلنَت باريس مدينة مفتوحة لإنقاذ ما فيها من كنوز وآثار وروائع فنية خالدة،
وكذلك پراغ أُعلنَ حيادُها لإنقاذ روائعها الخالدات.
ذلك أن الحرب عمياء لا ترحم،
وما تهدّمه الحرب من حيطان وزجاج ومنازل وجسور وشوارع ومعالِم يمكن إعادته أو ترميمه ولو أكثر من مرة،
إلاّ كنوز الآثار إذا تكسّرت تزول ولا يمكن إعادتها.
تزول المعالم وتعاد مراراً،
إلا كنوز الآثار تزول مرة واحدة ولا تعود.
فكيف، إذا ذهبَت، تعود كنوز متحف القاهرة أو جواهر مكتبة الاسكندرية؟
السبت الماضي جاءتْني رسالة “غالية” تَخيَّلَتْ أن “المومياء الصارخة” في المتحف ساهرةٌ على نوم المومياءات،
حتى إذا شعرت بالخطر في لحظة الخوف على شقيقاتها النائمات في هدوء المتحف،
خرجَت عن صمتِها الدّهريّ
وأطلقَت صرختَها عاليةً، مذعورةً، مرعوبةً من قبضات المخرّبين،
فارتَجّت لصرختِها أَرجاءُ المتحف الهادئ،
وخرجَت أصداءُ صرختِها إلى سماء القاهرة،
فسمِعَها الأهالي
وتنادوا لصرختها مستغيثةً من هلَعٍ على ذاتها وعلى شقيقاتها وعلى كنوز جوهرةِ مصر: متحف القاهرة.
بلى:
لعلّ صوتها الصارخ جعل المتنوّرين من أهل مصر يتجاوزون كلَّ اعتبارٍ سياسيٍّ وأمني،
ويهرعون إلى حِماية تراثٍ نادر هو
وجهُ مصرَ الأمس،
وصوتُها اليوم،
ومرآتُها غداً،
في متحفٍ يضم تراثاً خالداً على الزمان،
سوف تدول دولٌ، وتسقط أنظمةٌ، وتقوم أُخرى،
وهو باقٍ في جلاله وسُكونه وصمتِه الْمَهيب شاهداً على تَوَالي الأيام والسنوات والقرون والعصور
فيصحُّ له قولُ أحمد شوقي في تمثال حُوْر:
تَحَرَّكْ أبا الهول، هذا الزمانُ تَحَرَّكَ ما فيه حتى الحجَرْ.