الحلقة 974: الأندلس طبعة جديدة منقّحة ومزيدة
الأربعاء 12 كانون الثاني 2011
صحيحٌ أنّ جنوبَ السودان يزاول اليوم ما يعمل له منذ نصف قرنٍ، لانفصاله عن جسْم الدولة الأُم.
لكنّه بذلك يُنهي مرحلةً ليبدأ مرحلةً مجهولةً الخُطى، بطيئةَ التشكيل، على عادة الشعوب التي تنتقل من حال إلى حال.
قد لا يكون جنوبُ السودان وحده البادئَ في هذه المرحلة المجهولة الغَد، لأنَ السُّبحةَ قد تكُرُّ تباعاً، على منوال جنوب السودان، فتروحُ الحركات الانفصالية تتأجّج في دول أُخرى مطالبةً بالانفصال. كردستان حاضرة ذهنياً ونفسياً في العراق، وفي دولٍ أُخرى إثنياتٌ جاهزةٌ للتحرُّك إلى الانفصال عن دولٍ مركزية تنتمي اليوم إليها وترغب في الاستقلال عنها.
هذا الأمر يعيدُنا قروناً إلى التاريخ الغابر، إلى حال المجتمعات الأُولى قبائلَ وعشائرَ وإثنياتٍ وجماعاتٍ كانت متفرقةً متوزّعةً متباعدةً منفصلةً عن بعضها البعض، متخاصمةً في ما بينها أو متحالفة، إلى أن بدأت تتشكّل الدول المركزية، وتضمُّ إليها المتباعِدين فتنسُجُهم متقاربين، والمنفصِلين فتجعلُهم متّصلين، وهكذا: من الجماعات المتفرّقة تكوّنت دولةٌ مركزيةٌ موحّدة متّحدة.
وخشيةً من مقولةِ “كلُّ أُمَّةٍ تنقسم على ذاتها تخرَب”، تسعى الدولة المركزية إلى الحفاظ على وَحدة شعبها وترابها، فلا تتفتَّت فيها جهةٌ، ولا ينفصل منها إقليمٌ، ولا تستقلّ عنها جماعةٌ، حفاظاً على تماسُك المجتمع ووَحدة الدولة قبل أن يدهمها خرابُ التفكُّك. ولنا في نهاية الأمبراطورية العثمانية دليلٌ واضح، وعلى نهاية دول ملوك الطوائف في الأندلس مثال دامغ.
قبل سنواتٍ غير بعيدةٍ شهدت مدينة لوس أنجلس في ولاية كاليفورنيا الأميركية الغربية اضطراباتٍ قاسية، وبدأت تتناهى إلى الإعلام أصداءُ عن تفكير فئاتٍ سياسية بانفصال هذه الولاية عن جسم الولايات المتحدة، فعاجلت الدولة المركزية في واشنطن إلى معالجة الوضع في حَسْمٍ وحَزْمٍ وعَزْمٍ للحفاظ على الولايات متحدةً، بعدما خاضت حروباً أهليةً شرسةً بين شمالٍ وجنوب، وشهدت سقوطَ ضحايا ووقوعَ خراب، من أجل الوَحدة والاتّحاد لتكوين ولاياتٍ متحدةٍ متماسكةٍ في كنَف دولةٍ مركزية واحدة، أنّى تكن أطرافها متراميةً حتى تشكل الدولة وحدها قارةً كاملة في ذاتها.
طبعاً، لجنوبيّي السودان حقُّهم في تقرير مصيرهم، ومنطقُهم في ما هم عليه يُقْدِمون، لكنّ الخطوة التي يقْدِمون عليها قد تكون نُقطةً أولى في بُقْعَة زيتٍ إذا تَمَدَّدَت إثنيّاً وجغرافيّاً وديموغرافيّاً، ستكون لها مضاعفاتٌ في دول المنطقة إن أخذَتْ كلُّ جماعةٍ تستقلُّ بإقليمِها المذهبيّ أو الطائفيّ أو الدينيّ، فيرجعُ بها التاريخُ إلى الوراء، وتتفكَّكُ الدول قبائلَ ومزارعَ وعشائرَ وجماعاتٍ، ويكون الشرق الأوسط الجديد هديةً ثمينةً وتاريخيةً لدولةٍ غاصبةٍ بدأَت تُخطِّط، منذ بلفور وقبلَه وبعدَه، أن تشهد هذا الشرقَ الأوسطَ يتفكّك أمامها، لينتهي طبعةً جديدةً من سيرة الأندلس المغلوبة.