652: لمن يكتب الشاعر؟ (1/2)

لمن يكتب الشاعر؟ (1/2)
السبت 19 حزيران 2010
– 652 –

هل الشعر، منذ كان الشعر، صورةُ واقع أم تَصَوُّرُ استيهام؟ وهل الشاعر في قصيدته: ينقل واقعه؟ أم يُوهِم؟ أم يَستَوهِم؟
ما المسافةُ في الشعر بين الخيال والواقع؟ وما المسافةُ لدى الشاعر بين الوهم والحقيقة؟
هل بين الوهم والحقيقة تناقُض أم تكامُل؟ وبين الخيال والواقع: هل تضادٌّ أم تواصُل؟
تتواصَل هذه الجدلية منذ كان الشعر، ويتواصل معها الجدل من دون بلوغ الحسم في الجواب. أصلاً: هل الشعر جواب؟ أم هل فيه جواب؟ أليس هو سؤالاً يجب أن يبقى الى سؤال؟ ولِمن يكتب الشاعر؟ له؟ لقارئه؟ أم لكليهما معاً؟
حين الشاعر في لحظة الكتابة، يكون في حالةٍ وسطى بين الواقع والخيال. قد يستمد من الواقع مادةً لخياله، أو من خياله مادة يقرّبها من الواقع. وهنا الفارق الرفيع بين الحالة والحدث. الشاعر يخلق الحالة لكنه لا يستطيع أن يخلق الحدث. الحالة حالةٌ قد تطول من دون حدود أو مسافات، ويمكن أن يبقى فيها الشاعر طويلاً. قد يخرج منها ويمكن ألاّ يخرج منها قط ويظلّ فيها ويكتب منها وفيها حتى ليظنّ قارئه أنها واقعٌ، حقيقةٌ، حياةٌ يعيشها فعلاً. أما الحدث فلا “يحدُث” إلاّ مرة واحدة ولا يمكن الشاعر أن يكتب من خارجه حين يحدث فعلاً. كالفارق بين الغزل والحب. الغزل حالةٌ يمكن الشاعر أن يستوهمَها لقصيدته ويوهمَ بها قراء قصيدته طويلاً طويلاً، فيكتب لـ”امرأةٍ” ما، قد تكون جزئياً في الواقع ويضفي هو عليها ويضيف تجميلاً وتزويقاً ولُمَحاً منه لتصبح كأنها “حالة معاشة” فيتّخذ الشاعر منها صفة له وهوية. وقد تطول هذه الحالة ولو تغيرت في حياة الشاعر “امرأةٌ ما” هنا، و”امرأةٌ ما” هناك، فلا يتغيَّر النَفَس بل يظلُّ كأن النساء جميعهنّ امرأةٌ واحدة يكتب الشاعر منها وإليها. وقد لا تكون هذه الـ”امرأة ما” موجودةً أصلاً فيكتب لها الشاعر على أنها موجودة، في حالة عشق وهمي استيهامي إيهامي تجعل الشاعر شاعرَ غزل أو شاعرَ حب أو شاعرَ المرأة، بينما هو في الواقع لا “يعيش” الحب بل “يوهم” بـ”حالة الحب”، فيكون واهِماً مُوهِماً، ويكون شعره “وهماً” جميلاً لا علاقة له بالواقع والحقيقة. فالشاعر، كما يحدد بودلير، يبلغ في شعره أن “يتّخذ الصورة التي يريد هو أن يعطاها في شعره، فيراه المتلقُّون في هذه الصورة على أنها صورته وهويته”.
الى أن يأتي “الحدث” وهو لا “يحدث” إلا مرة واحدة، فـ”تأتي” المرأة، واقعاً لا خيالاً، حقيقةً لا وهماً. هنا يبدأ الشاعر أن يكون حقيقياً فيكون شعره أيضاً حقيقياً وينتقل من شعر الغزل (الوهمي الموهوم الموهِم) الى شعر الحب الحقيقي. وإذا الغزل حالةٌ تدوم في وهم القصيدة، فالحب حدثٌ لا يدوم إلاّ بدوام الحب الذي قد يأتي في زمن متأخر من حياة الشاعر فتكون لديه النقلة الحاسمة من مرحلة “الحالة” التي اخترعها هو ودامت حتى وصول “الحدث”، الى مرحلة “الحدث” الذي تكون حقيقته وحيدة.
هكذا الشاعر أمام القصيدة: هي ليست مرآته وحسب، بل يجب أن تكون كذلك مرآة المتلقّي الذي يشعر أنه معنيّ بالقصيدة كأنها منه، كأنها له، كأنها صوته أو حالته. من هنا قدرة الشاعر في تصوير اللاواقع على أنه واقع، ويحمل هذه الهوية له ولشعره، فيما بينه وبينه يعرف تماماً أنها ليست صورته الحقيقية وليست واقعه، بل ما أراد هو أن يعطى من صورة وواقع.
كيف يكتشف القارئ شعر الوهم من شعر الحقيقة؟ في شعر الوهم كلام معلّب مكرّر مَجّاني يُغدق على المرأة كليشيهات من صفاتٍ ونُعوتٍ يمكن أن يقولها في هذه أو تلك من النساء، بينما في شعر الحقيقة كلمة مسلوخة من نبض الشاعر، جديدةً بكراً غير مُعادَة ولا مَجانيَّة ولا مكرَّرة. ومن مقارنة شعره بين قصائد “الحالة” وقصائد “الحدث” تتّضح نبرته ويبدو جلياً أنه انتقل في شعره من استيهامِه ذاته فإيهامِه السوى، الى واقع حقيقته الذي يكون فيه الحدث نابضاً بالصورة، بعيداً عن الحالة التي كانت نابضةً بالتَصَوُّر. وبين الصورة والتَصَوُّر، يكون الفصلُ الحاسم بين الحقيقة والوهم، بين الواقع والخيال.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*