الحلقة 916: الصورةُ الصامتة ذاكرةٌ ناطقة
الأربعاء 23 حزيران 2010
مع كل عودةٍ، لمغتربٍ أو مُهاجر، الى بلدته أو مدينته أو حيّ طفولته، يلحظُ التغيُّر في مشهدٍ لم يعُد كما كان يوم تركَه وسافر قبل سنوات، كأنّما الزحف العمراني الآتي على ما كان، يقضي على ذكريات ما كان مثلما كان.
ومهما اختزنت الذاكرة من مشاهد، تبقى حاجةٌ لها الى تثبيت التذكار حتى تعود الى تمام اللحظة والمكان.
ما الذي يثبّت هذا التذكار؟ الصورة.
وإذا كان هذا على مستوى الفرد في التذكار الشخصي، فكيف به على مستوى الجماعة؟ وتالياً على مستوى الوطن؟
هنا أهميةُ الكتُب التي تحمل صوَراً من الماضي تعيد الماضي الى لحظة الحاضر وتؤكّد بقاءه في ذاكرة المستقبل.
بين هذه الكتب: “قاموس المستشرقين الفرنكوفونيين” الذي ورد فيه اسم لويس رونْزْڤال، اليسوعي الذي أسس “مُحترف غزير الفوتوغرافي”، مع ثمانية آخرين من المرسَلين اليسوعيين، وراح يدور في لبنان، في كل لبنان، يلتقط صُوَراً لمشاهدَ وأشخاصٍ ومناظر، هي اليوم ذاكرةٌ نابضة، ولو في صورة جامدة، للبنان الربع الأخير من القرن التاسع عشر.
كان الهدف من تلك الحملة الفوتوغرافية: إقامة إيقونوغرافيا مختارة لبناء صورة تساعد في “وصف لبنان”، تماماً كما كانت حملةٌ مماثلة، قبل نحو قرن من ذلك، لبناء “وصف مصر” مع حملة بونابارت عليها في نهاية القرن الثامن عشر.
تكرَّس “مُحترف غزير”، منذ إنشائه، لـ”تيولوجيا الصورة”: لا هدف تجارياً له، بل رسالة عَمِل لأجلها مرسَلُوها اليسوعيون على التقاطِ صُوَرٍ جميلةٍ للبنانَ ذاك العصر كي تبقى شاهدةً وشهادة على المشهد اللبناني تلك الأيام، وهو ما قام به مستشرقون كثيرون مرُّوا في بلادنا وتركوا صوراً لها أو رسوماً شاهدةً على لبناننا أيامهم، باقيةً لنا ذاكرةً للمستقبل.
الصورة، بلى: ناطقةٌ في صمتها، معبِّرةٌ في سكوتها، متحرِّكةٌ في جُمودها. فلْنُحسِن الاحتفاظ بها، قبل كل تغيير سكاني أو عمراني أو طبيعي أو بيئي، كي لا نترك لأولادنا ذاكرةً قصيرةً عمرُها مشهدُ بلادهم على أيامهم فقط، دون أيامنا وأيام أسلافنا.
ويا تعس بلادٍ ذاكرةُ أهلها القصيرةُ لا تمتدُّ أبعد من يومهم الحاضر فقط، لأن ذكرياتهم عندها تكون كموج البحر: عمرُهُ يمتدُّ فقط بين عُلُوّ الموجة مَزهُوَّةً فوق، وانكسارِها سريعةً تحت، متلاشيةً على رمال الشاطئ.