… وللضحك أيضاً “ثقافته”
السبت 17 نيسان 2010
– 643 –
بعد عودة الحياة الى الخشبة عندنا – إثْر تَوَقُّفها سنواتٍ طويلةً وتَعَثُّرها في العودة بين بطيئةٍ ومرتَجَلَة -، يَجمُل الكلام على “ما الذي عاد” من المسرح، جوهراً وأداءً وإبداعَ عطاءٍ في حقوله المختلفة. فعدا الأعمال الغنائية الراقية المكرّسة، لم تَعُد بعدُ الى خشباتنا (كما كانت بيروت الأمس) وفرةُ أعمالٍ مسرحية إبداعية تتكامل نصاً وإخراجاً وأَداءً. ربما لذلك، وبسببٍ من هذا الوضع المضطرب المتلكِّئ، حذراً أو ارتقاباً، تكثر أعمال المونودراما (مسرحية الممثل الوحيد) أو، في حال أفضل، مسرح الثنائي.
وإذا كان هذا النوع من المسرح أقلَّ كلفةً (إذا أقلَّ خطراً في “مغامرة” إنتاجه) فهذا لا يعني أنه أقلُّ أهميةً أو أسهلُ تركيبةً. ولأن هذا النوع من المسرح يتعاطى مع الإضحاك، ينحو بعضُ أصحابه الى إثارة الضحك الرخيص (أو السهل أو السريع) عبر إضحاكٍ يتوسّل نكاتٍ تتراوح بين المبتَذَل أو العادي، أو القائم على غمزٍ ولَمزٍ وعبارات من القطاع الجنسي الذي، بالكلمة أو بالحركة المعبّرة، يثير الضحك الوميض لكنه لا يبني مطلقاً فِلذةً من فائدةٍ أو عبرة.
بلى: للضحك أيضاً “ثقافته”. من هنا التقديرُ الجدّيّ لأعمال إحادية (ممثل واحد) أو ثنائية شهدناها في الفترة الأخيرة على مسارحنا، توسَّلَت الإضحاك الهادف من دون السقوط في الابتذال. فالفرق واضح (وإن دقيق) بين الإضحاك السهل (في حركة جنسية أو تعبير ذي تلميحٍ جنسي) والإضحاك الطالع من نقد عادات وتقاليد وأنماط اجتماعية سائدة في مجتمعٍ ما، أو حالةٍ معيّنة، أو وضعٍ (سياسيّ أو سوسيولوجيّ) خاص. هذا الإضحاك الذي يثيره النص المسرحي (ويؤديه مُمثِّله، وأحياناً يكون الممثل هو نفسه كاتبه) ينبع من واقع الجمهور في الصالة ويعود إليه منبِّهاً لافتاً مُحذِّراً دالاًّ على الخطأ بغية تصحيحه، أو مضخِّماً تَمَظْهُرَه بغية اللفت إليه، في الممارسة العامة، أو العلاقات الاجتماعية، أو التعاطي مع ظروف وشؤون معيَّنة. وفي هذا النسيج الكتابي (والأدائي بعدها) عملٌ إبداعيٌّ دقيقٌ ذو رهافةٍ عالية وحسٍ رهيف يثير الضحك المعبِّر لا القهقهة الطافية على وجه السهولة.
إنه مسرح يتناول العلاقات الانسانية والاجتماعية بين أهل المجتمع الواحد، ويرسم على الخشبة طريقة التفكير، ويُبرز مُحرَّماتٍ ومَمنوعاتٍ لا للتشجيع عليها بل لتحسين التعاطي معها، فيصبح العمل المسرحي (نصاً وأداءً) وازعاً سوسيولوجياً لا مجرد عمل ترفيهي مسطّح. يصبح محطة لتحسين تعاملٍ، أو لتجنُّب رُكُوبِ موجةٍ، من دون تَجريح في كلمات النص، أو الابتذال في استخدام عباراتٍ تُزعج خفر صبيّة، أو تثير اشمئزازَ سيّدة، أو تؤدّي الى نفور ملتزمين بقواعد الأخلاق الاجتماعية أو الروحية.
وهنا الفرق الواضح بين الڤودڤيل الساخر (المرتكز على المواقف في بناء الشخصية الدرامية) والكوميديا (المعتمِدة على الحوار وما يتناسل عنه من مواقف) والتهريج (المبنيّ على حركة تصاحب عبارةً، أو كلمةً، أو تلميحاً غالباً رخيصاً أو مستهلَكاً).
الكوميديا غيرُ التنكيت، والڤودڤيل غيرُ التهريج، والإضحاك ذو هدف غالباً سامٍ يرمي الى الإصلاح وتبيان الخطأ لتجنُّبه، والفساد لمعالجته. ولذا قلتُ إن الأعمال الإحادية أو الثنائية تقتضي الدقَّة في تفصيل النص وتطريزه (قبل أدائه) ليكون هادفاً ومفيداً (ولا أقصد هنا الوعظ والإرشاد والتعليم المباشَر)، وليكون عاكساً نماذج من مجتمع معين (لا يفضحها بل يشير إليها)، أو واقعاً من أجل تغييره لا لِمُجرَّد عرضه في أُسلوبٍ يتوسل ضحكةً عابرة على كاريكاتور سياسي (غالباً يُصيبُ شخصية معينة، أو يتعمَّد تقليد سياسيّ بحركاته وطريقة كلامه) وهذا إجمالاً من ظواهر مسرح الشانسونييه الذي، كالصحيفة العابرة، يعبُر نصه، فما يقوله اليوم قد لا يعود صالحاً بعد انقضاء حقبة الشخصيات التي قلَّدها أو رسَمها كاريكاتورياً في النص والأداء.
التهريج الإلْماحيُّ سَهلٌ وهو عمل عابر، والإضحاكُ الهادف صعبٌ وهو عمل إبداعيٌّ لأنه ينسج الأفكار العميقة والمواقف المدروسة، وفي ذلك ما يُبقي هذا المسرح (رغم الضحك فيه) جادّاً وصالحاً لكل حقبةٍ ولكل جمهور.