لُغة اللوحة بين التواصُل والتبرير
السبت 24 نيسان 2010
– 644 –
أعود من عاصمةٍ عربية استضافَت سمپوزيوم رسمٍ شارك فيه تشكيليّون من دول مشرقية ومغربية. ولأن طبيعة السمپوزيوم أن يحتمل الجيّد والأقل جودة، فهو تلقائياً يحتمل الـ”كَم” الذي لا يتوازى دائماً مع الـ”كيف” المتوقَّع في كل عمل فنّي.
إذا الكميةُ غالباً مَقْتل المنتج (إلاّ إذا كان عبقرياً فريداً) فالنوعية دائماً مَقْتلُه إن لم يكن فارسَها المتمكِّن. وإذا المادةُ الإبداعية (كلمة، لون، نوتة موسيقية، خَط، حجر، خشب، معدن، …) هي “ما” يشكِّل بها المبدع عمله، وهي مطروحة للجميع من دون استثناء ولا استئذان، فالأساس يبقى “كيف” يتناول المبدع هذه المادة ويجعل منها خصوصيته ليَطْلَع بها على الناس عملاً يتَحوّل بين يديه من عامّ (متوافر للجميع) الى خاص (لا يشبه إلاّ صاحبه).
في ذاك السمپوزيوم رأيتُ لوحاتٍ كثيرةً لفنانين مكرّسين في بلدانهم، من تيارات تشكيلية مختلفة، جَمَعَهم مُحترف واحد للرسم معاً في مساحةِ لقاءٍ أتاح لهم التفاعل والتعارف والتحاور وتبادل التجارب والخبرات، والتعبير عن لُغاتهم التشكيلية التي تتفاوت عادةً في أدائها وأُسلوبها وعلاقتها مع المتلقّي الباحث عن تفاعل معه، عن حوار مع اللوحة، عن رسالة.
بلى: اللوحة رسالة. اللوحة أن “تقول” لي. ما هَمَّ أن تكون انطباعية أو تجريدية أو تكعيبية أو سوريالية. لا أطلب من اللوحة أن تُريني شجرةً أو قرميداً أو عصفوراً كي “تقول” لي ما فيها. إنما أطلب أن “تقول” لي، أن تشدَّني إليها، أن تأخذني الى شكلها أو ألوانها أو خطوطها. ليس ضرورياً أن أبحث فيها عن “معنى”، بل عن “شُعور”، عن لَمسةٍ تَمَسُّني فتولد لغةٌ بينها وبيني.
هذه اللمسة لا تتوفَّر في العلْم بل في الفن. العلْم سكَّةٌ يَخضع لها المُلقي والمتلقّي معاً. الفن فضاء لا تحدّه سكَك. غير أن هذه الـ”لا تَحُدُّه” لا تعني أن ينفلت تَهويماً عبثياً غير منضبط. حتى الطيران له أُصول وقواعد. ومن هذه الأُصول يتولَّد الجمال.
الجمال، قلتُ. وهو الأساس. الفن وليدُ الجمال ومُوَلِّدُه في آن. يأتي منه ويؤدّي إليه. وكل فنٍّ يَخرج عن الجمال، قد يؤذي العين أو الشعور. صحيح أن النِظرة الى الجمال نسبية غير مقوننة لكنّ الشعور به يخضع للتواصل بين المادة الإبداعية ومتلقّيها.
هذا التواصل يخلقه الخضوع للأصول. من هنا أنّ الفن يعيش في الصعوبة ويموت في الاستسهال. والذي دفع ليونار داڤنتشي الى الاستغراق أشهراً طويلة في رسم شَفَتَي الموناليزا لم يكن مجرد التجويد في ضربة الريشة بل كان البحث عن اللحظة الأجمل لإعطاء الشعور الأجمل بأنْ يظلّ السؤالُ الأجمل من دون جواب: هل هي بسمة حزن؟ أم رضى؟ أم شُرود؟
وإذا “القاعدة الذهبية” أساس الفن اليوناني وعصر النهضة (رسماً ونحتاً وهندسةً وأساساً أكاديمياً)، فالعصر اليوم تخطاها تقنياً إنما بحثَ عن قاعدة جديدة “ذهبية” أو “حديثة” لها ضوابط أُصولٍ إذا خرجَ عنها الفنان خرجَ عن خلْق لغة يتواصل بها متلقّيه مع لوحته من دون أن يرافقها الفنان لـ”يبرّر” أو “يشرح” أو “يفسّر” ما في لوحته.
بلى: الضوابط والأصول ضرورية، وتتطوّر مع العصر، كلّ عصر. أما القصور عن هذه الأصول بِحجّة “الحداثة” التي يتحجَّج بها كثيرون (شعراً ورسماً ونحتاً وموسيقى…) للاستسهال في تقديم “وجبة سريعة” لا تكلّف صاحبها عناءَ التشدُّد في خلق الجمال، فهو يؤدي الى استسهال الزمنِ إسقاطَ العمل الفني في النسيان وسرعةِ اندثاره في مَطمَر السهولة.
ومع تقدُّم أدوات العصر وأساليبه التقنية والتكنولوجية والإلكترونية تبقى اللوحة (أياً يكن الأسلوب الذي يتوسَّلُه الرسام) واقفةً على أرضٍ متينة من أُصولٍ يعاد إليها لخلق “اللغة” بين اللوحة وقارئها، وهي أصولٌ لا تظهر جليةً على سطح اللوحة بل تختفي وراءها كما تختفي المرساة في قعر المياه كي تحفظ السفينة متينة الهيبة على سطح البحر.
“الجمال يخلّص العالم”؟ (دوستويفسكي) صحيح. وكل إبداع لا يوجِد لغة جمال بينه وبين متلقّيه،يغرق في سفسطة تبريره، والتبرير في الفن مقْتَلٌ آخر يُصيب الـ”كيف” فيسقط في هوّة قاتلةٍ لا الى قرار.