الحلقة 862: قراءة ثانية في أصوات المدينة
الأربعاء 2 كانون الأول 2009
لم يعُد جديداً قولُنا إنها لا تنام، هذه المدينةُ الرائعةُ التي تُسَاهِرنا حتى ابتسامة الفجر، هذه الـ بيروت التي لا ينفَدُ عليها كلامُ الحب. مهما تأنَّقنا به وجَمّلناه، تبقى هي آنَقَ وأجْمَل.
ولم يعُد جديداً قولُنا إن أصواتَها باتت مَحفورةً في ذاكرتنا اليومية، ومعايناتِنا إياها باتت من المألوف الدائم معانياتٍ ومعايناتٍ تَختلف باختلاف نِظرتنا إليها.
فلو نظرنا إلى أصواتِها بعينٍ قاحلةٍ جرداءَ من كل حب، لوجَدْنا في أصواتِها حالةً غيرَ سائغة، من ضوضائها اليومية التي لا تَهدأ، الى زمامير سياراتِها التي لا تتوقّف، الى مُحرّكات مركباتِها التي لا تَسكُت، الى هدير درّاجاتِها النارية الذي لا يُريح ولا يرتاح، الى صياح باعتها المتجوّلين بين الشوارع والأحياء مُنادين على بضائعهم أو مُخاطبين سيّداتٍ على الشرفات مادّاتٍ سلالَهنّ من الطوابق العليا ليملأها البائعون خُضَراً وفواكه، الى أصواتٍ أخرى هنا وهناك وهنالك تتعالى من بيوتِ المدينة وشوارعِها وأحيائِها وأرصفتِها وكلِّ مكان فيها، تُولّد فينا اضطراباً قد يودي الى التوتر.
لكننا لو أخذنا وقتَنا في حبّ كثيرٍ وأصغينا الى أصوات أخرى في المدينة بإمعانٍ وتُؤَدة، لوجدناها في شعور آخر مُختلف، وأحببناها أكثر. فتعالوا نُصْغِي معاً بشعورٍ آخَر الى أصوات المدينة، من ضحكات أولاد بريئةٍ في ملعب مدرسة، الى تكتكات كرّة السلة في يد لاعب رياضيّ، أو إيقاع خطوات على رصيف، الى فَقش الموج العاشق يداعبُ رصيف كورنيش البحر، الى أنغام الأحياء التجارية العاجّة بروادها ومارّتِها وتُجّارها وحركة الحياة فيها، الى صرير الكراسي المستقبِلةِ زائريها في مقاهي الأرصفة، الى رنين فناجين القهوة على الطاولات في المطاعم والمقاهي، الى أصداء أغنية لبنانية جميلةٍ تتناهى من مذياعٍ على شرفة مبنى مزهرةٍ، الى هسيس الحوارات بين مارة مستعجلين الى مواعيدهم، الى عَدٍّ لا ينتهي من أصوات المدينة.
أصوات المدينة، هي هي، لكنها تتغيّر وَفق نِظرتنا إليها: بين عيوننا مفتوحةً على آذاننا في طنين يزعجها، وبين عيوننا مغمضةً في شارعٍ على حيوية أصوات المدينة.
بلى: تَختلف أصوات المدينة باختلاف نِظرتنا إليها.
فلْنُصْغِ الى أصوات المدينة في حُب يُعانقُ حبَّنا المدينة، تَنْزل أصواتُها الى قلوبِنا العاشقَتِها لا آذانِنا التي تُصغي وحسْب.
فلنُصْغِ الى حياة المدينة، تنزرع في قلوبنا حياةٌ جديدة تليقُ بِمَدينتنا الرائعة، تليق ببيروتِنا الحبيبة الغالية، تليقُ بعاصمةٍ تَجعل لبنانَنا وطناً لا كسائر الأوطان.