الحلقة 861: فَـلْـتَـعُـد “النصيحة بجمل”
الأحد 29 تشرين الثاني 2009
في الْمَثَل الشعبيّ السائد: “كانت النصيحة بجمَل”، دلالةً على كم كان الناس في الماضي يَقصِدون صاحب المشورة، ويبادلونه نصيحتَه بِجَمل، أو بِما هو قيِّمٌ، ثَمنَ نصيحةٍ كانت تفصل بين متخاصمِين أو تعدل بين أفرقاء.
وصاحب المشُورة كان عادةً حكيمَ قومه، أو كبيرَهم، أو فيلسوفاً، أو مثقّفاً كبيراً، أو شيخَ صلح، أو شيخَ قبيلة، يقصِدُه الناس للنصيحة فيُصغُون إليه، ويقتَنعون بِمشورته، ويأخذون بِها ويعمَلُون بِموجَبِها، فتَصطلحُ أُمورُهم.
هذا يعني أنّ المشورة أو النصيحة ما كانت تصدُر عن أيٍّ كان، لأيٍّ كان، في أيِّ ظرفٍ كان، لذا كانت ذات قيمة.
أما اليوم، فبات أيٌّ كان يُعطي مشورةً أو نصيحةً لأيٍّ كان وفي أيِّ ظرفٍ كان، بدون سؤال ومن دُون طلبٍ كان. وبات كلٌّ يَحسَبُ نفسَه ناصحاً رشيداً، ومُشيراً حكيماً، ومرجعاً وطيداً يُعاد إليه في النُّصح والمشورة فلا يُرَدُّ له قرار.
كانت النصيحة ذاتَ قيمة فباتت بلا قيمة. وانفرط العقد الى فوضى بلا معايير ولا مقاييس ولا ضوابط، فأخذ الناس يعطُون النصائح يُمنةً ويُسرةً، أحياناً بطلب إليهم وغالباً بدون طلب، فتأتي النصائح والمشورات في غير مكانها، وفي غير صالح متلقّيها. وقد يبلغ بها الأمر أن تكون غيرَ مفيدةٍ، وأحياناً كثيرةً مؤذيةً متلقّيها حين يعملون بِها فتنقَلب عليهم وَبالاً عوضَ أن تكون خلاصاً، وَحَلاًّ لِما هم عليه.
ويتنطّح الناصحون إجمالاً في تأكيد أنهم على حقٍّ، فيُمْلُون رأيَهم في موقفٍ، في قضيةٍ، وحتى في دواءٍ ينصحون عشوائياً به عوضَ آخرَ يكون وصفه الطبيبُ المختصّ، ويَحشُر الناصحون آراءهم فارضينها على أنها هي الصواب فيما تكون أبعدَ ما تكون عن الصواب.
وقد يَحصل الأمر في مَحافلَ عامةٍ فينبري بين الجمهور مَن يَروح يَعِظُ، أو يوجِّه، أو يَنصَحُ بصوتٍ مرتفع يتوجَّه به الى مَن على المنبر، أو الى المسؤولين، متدخلاً في التنظيم أو السياق، فيشوِّش على جَوّ القاعة، ويُفسِد هيبة المحفل الثقافيّ أو العلميّ أو التربويّ أو ما إليه.
وهذه آفة في المجتمع مَمجوجة، عيبُها أنَّها تتسلّل الى خصوصيات الآخرين من دون سؤالِهم، فتَدخل في حَميميّاتِهم، أو دواخلهم، وتُزعجُهم، ولا يرعوي المتدخّلون.
الخلاص من هذه الآفة يكون بعدم التدخُّل في شؤون الآخرين، وعدمِ إعطاء أيةِ نصيحةٍ أن لم يُسأل أحدٌ عنها.
فَلْتَعُدِ “النصيحةُ بِـجَمَل” (أو بِما يُعادل الجمَل في قاموسنا المعاصر) لعلّ الناس يرعَوُون عن “التبَرُّع” بنصائحَ مَجّانيةٍ عَجلى لا تُفيد طالبِيها، وربّما أكثر: قد تنقلبُ عليهم وَبالاً فتُؤْذيهم عوض أن تعود عليهم بالنفع والفائدة.