الحلقة 742: بيع الأراضي يعني بيع لبنان
الأحد 5 تشرين الأول 2008
مونتريال (كندا)
قبل أن يُعرّفني بأولاده، قال لي: “أُوصيهم تكراراً ألاّ يبيعوا الأرض الأمانة التي أُورثُهم إياها، أنا الوارثُها عن أبي الوارثِها عن أبيه”. مُحدِّثي سعد طعمه (مُضيفي الى فندقه “بِسْتْ وِسْتِرْنْ” هنا في مونتريال على ناصية شارع شيربروك الرئيسي الشهير). وكان حديثُنا عن تراثٍ علينا أن نَحفَظَه، وإرثٍ علينا أن نُحافظ عليه. وسعد طعمه هو ابن إبل السقي، له هنا في مونتريال إحدى وعشرون سنة، وفيها ربّى أولاده على صفحات ابن ضيعته أبو علي سلام الراسي، وعلى نبض الحسّ اللبناني.
ومن حديثِه إليّ حديثُه عن جدّته لأمه، شهلا الراسي، أول فتاةٍ نالت شهادة الهاي سكول من مدرسة البنات في صيدا سنة 1898. وفي شيخوختها الأخيرة، أهدت الى حفيدها سعد سنة 1960 نسخة شهادتِها كي يَحفظها بعدها، ورُزمةَ كتبٍ قديمة ورثتْها عن والدها، وَجَدَ بينها الحفيدُ سعد نسخة كتاب قديم، في آخره صفحاتٌ بيضاء كان والدُها يدوّن عليها تاريخَ العائلة وتواريخَ أخرى تَهُمُّه، منها صفحة من سنة 1919 كَتَب عليها: “اليوم قابلنا المستر كراين وقلنا له: “نَحن طلاّب حرية واستقلال ونرفض كل أنواع الوصاية والانتداب”.
ومستر كراين هذا، هو رئيس بعثةٍ لتقصّي الحقائق أرسلها الرئيس الأميركي ولسون (وكان ضدّ معاهدة سايكس/بيكو التي وزَّعت المنطقة بين نفوذٍ فرنسي وآخَر إنكليزي) يريد استمالة الشعب أن يطلب الوصايةَ الأميركية. وكان الفرنسيون يومها يَجهدون الى استمالة الشعب اللبناني كي يطالب بالانتداب الفرنسي، واعتمدوا رشوةً نال منها نصيباً كبيراً الصحافي اللبناني اسكندر الرياشي الذي كان يرشو الناس ببعض ما يصله، ويَحتفظ بالباقي كلِّه غيرَ آبهٍ بِجدوى تلك الرشوة. وعاد فصَّل ذلك في كتابه “رؤساء جمهورية لبنان كما عرفتُهُم”.
ويعقّب مُحدثي على كلامه بضرورة توعية جيلنا اللبناني الجديد على تاريخه كي يتّعظ، ويتعرّف بلبنان، ويُحبَّه أكثر، ويتمسَّك به، فيتعلّق به، ولا يعود يبيع من أرضه لأنه يبيع وطنه. وأعطى مُحدثي سعد طعمه مثالاً على ذلك: الانقسامات الحادة التي قسّمت الشعب الأميركي بين شمال وجنوب في حرب ضروس دامت سنوات ثم انتهت بأن جلسوا معاً ليتبيَّنوا سبب تلك الحرب فلا يقعوا فيها، وينصرفوا الى بناء دولة واحدة موحّدة.
وختم سعد طعمة حديثه بأن شعبنا اليوم في لبنان ما زال منقاداً وراء زعماء منقادين الى الخارج، وإذا ظلّ شعبنا هكذا فلن يعرف لبنان الحرية، ولا السيادة ولا الاستقلال.
الى هنا كان وصل الحديث، حين دخل علينا شابٌ، على جبينه عنفوان لبنان، فعلِمَ من والده بِمَا كان يُحدّثني، وباعتزازٍ أخذه عن أبيه سعد، الواقف حَدَّه أرزة لبنانية، قال لي: “عَلِّ الصوت في لبنان عندما تعود، عَلِّهِ حتى الصراخ، ألاَّ يبيع شعبُنا أراضيه كي لا يصبح بلا أرض، فيتشرَّد في بلاد الناس لاجئاً بلا وطن”.
وختم مُحدِّقاً بي وهو يردّد: “لا أبيعُ أرضي بذهَب الأرض، ترابُ بلادي تراب الجنان، وفيه ينامُ الزمان”.