الحلقة 730 : پِـتْرا قبل شروق الشمس
(لـيوم الأحد 24 آب 2008)
بترا- الأردن
وصَلْنا قبل آخر لُهاثٍ من العتمة. عَبَرْنا في الظلامِ تِلالاً ووِهاداً، بين صخورٍ نَحَتَتْها الأيامُ (بل السنواتُ بل العقودُ بل القرونُ الطويلةُ) تضاريسَ وأشكالاً عجيبةَ الجمال. نَحنُ هنا في “پـترا الصغيرة”. دخَلْنا فلْقةً بين شاهقَين. بلغْنا ساحةً بين شواهق. في الصدْر عَمودا هيكلٍ منحوتان على طرازِ أعمدة “الخزْنة” الشهيرة في پـترا المعروفة، غيرِ البعيدة من هنا.
قام القائدُ الكورالِيُّ السويديُّ غونّار إريكسون (ذو الستة والسبعين عاماً) بتوزيع 120 منشداً كورالياً في حلْقةٍ واسعةٍ جداً على أطراف الساحة. وبإِدارته، بدأَ الجميع همهمةً خفيضةً ثم أعلى ثم أعلى، وأخذوا يتقدمون بِبُطْءٍ صوب وسَط الساحة، فتضيقُ بِهم الحلقة وتَمشي أصواتُهم من مُنشدٍ الى آخَر، فيدور الصوتُ في الساحةِ يدور، كأنه قطارٌ يدور، والأصوات تترنَّحُ پُـوليفُونيةً حول الساحة، طالعةً من وجوهٍ تلُوحُ في ضوء قمرٍ، فوقَنا، نَسِيَ أن يذهبَ الى البيت.
تتوالَى الأصواتُ دورياً في دوائر: سوپْـرانو ثم تينور ثم آلتو ثم باس، ثم الكلُّ معاً في مزيجٍ تصويتِيٍّ رائعٍ يؤكِّد عظمةَ الصوتِ البشريِّ، وغنىً فيه لا تبلغُه أيّةُ آلةٍ موسيقية.
في هذا المكان الْـكَأَنَّهُ خارجَ هذا العالم، تتردَّدُ حولنا الأصواتُ، تتسلَّلُ بين شجرِ تينٍ بريٍّ طالعٍ من قلب الصخر أو نابتٍ بيننا في الرمل، أو تتسلَّقُ (الأصواتُ) دَرَجاً دهرياً عتيقاً منحوتاً في الصخور فوقَنا، أو تعبُرُ فلَقاتٍ صغيرةً بين الصخور حولنا، أو تَدخُلُ في كُوىً ومغاورَ صغيرةٍ ذكَّرَتني بشبيهاتِها وسْط وادي قنوبين مَحفورةً في صخور لبنان.
يصدح بوقٌ من مغارةٍ وراءَنا كأنه آتٍ من وراء التاريخ العتيق، ترافقُه هَمهمةٌ وتصفيقُ أكفٍّ إيقاعيٌّ خفيضٌ ثم أقوى.
فجأَةً دهَمتْنا أَشعةٌ أُولى لشمسٍ أخذَت تتسلَّل إلينا من بين شقوقٍ في الصخور كأنها تتثاءَبُ فاغرةً فاها لتستقبل الصباح.
حولَنا بدأتُ تطِلُّ رفوفُ عصافيرَ تَحُطُّ على ثَنياتِ الصخور، جاءت حافيةً تُنْصِتُ الى أصوات المنشدين الكوراليين، مستغربةً أن يصلَ أحدٌ غيرُها الى هذه الساحة النائية عن العالم.
أخيراً، أمر القائدُ الكورالي السويدي فسكت الجميع، وعلا تصفيقُنا صاحياً من غيبوبةِ حالةٍ ثانيةٍ، نشوةٍ جماليةٍ حَمَلَتْنا إليها الموسيقى في هذه الصُّبحيَّة (بل الفَجْريَّة) التصويتيَّة الفريدةِ التجربة، فَوَعَيْنا كمِ الموسيقى تُغَيِّرُ نَمَطَ الحياة وتُنَقّي النفس وتصقلُ الشخصية، وهو ما بهِ شعرنا جميعاً من رندحةِ هذه الأصواتِ البشرية، المشاركةِ في “مؤتمر الكورالات العربية” بدعوة من مؤسسة “أصواتُنا” في الأردنّ.
ونَحن عائدون الى الفندق، والشمسُ باتت هَدْيَنا، سلَكْنا طريقاً أفعوانيةً حرباويةً متعرِّجةً بين الصخور، لَم ننتَبِهْ لَها في طريق الْمَجيء لأننا سلَكْناها في العتْمة.
إلْتَفَتْنا الى القمر (الذي عند وصولِنا فجراً كان نَسِيَ أن يذهبَ الى البيت) فلَم نَجِدْهُ. كان سَرَّبَ الى بيتِه، وراحَ ينام، يستعِدُّ ليضيء على ليلٍ جديدٍ آخرَ يَغمُرُ هذه الناحيةَ التاريخيةَ، من صُخورٍ ألفيَّةٍ كَأنَّ شخاريبَها حارسَةُ التاريخ.