الحلقة 643: كي لا تيأس غادة، وكلُّ غادة
(الأربعاء 17 تشرين الأول 2007)
بعد حلقة الأحد الأسبق: “ليس للبنان دياسبورا ولا شَتات ولا نزوح”، وصلتني رسالةٌ من خارج لبنان، موقّعة “غادة”، في ثناياها إيمان وجيعٌ بلبنان، وفي ظاهرها كفرٌ ببعض شعبه وبجميع سياسييه. قالت غادة: “أحب تعليقاتك الإذاعية لما فيها من قوة تدعو إلى التمسُّك بلبنان وفضْح الأخطاء فيه. غير أنني بلغتُ نقطةً فقدتُ فيها الأمل لا بالسياسيين الذين قتلوا فينا كل أمل، بل بمعظم شعبنا الذي بات مجموعاتٍ خانعةً تابعةً ببغاوياً أولئك السياسيين الذين يقودوننا إلى الهاوية. من هنا أعارضُكَ وأرى أنْ بلى: في لبنان دياسبورا (أي شعبٌ في الشَتات) لشعوري بأنني لن أعود إلى وطني، ولن يعود إليه أولادي يدرسون ويعيشون ويعملون فيه، هو الذي شرّدني وأسرتي وإخوتي وأختي. فالذين قديماً هاجروا إلى أميركا البعيدة هجَرُوا نهائياً ولن يعودوا، والذين لا يزالون يُهاجرون إلى كندا وأستراليا، يستقرون نهائياً هناك ولن يعودوا، والذين يعيشون ويعملون في الخليج على أمل أنهم قريبون ويعودون يوماً، لا يشعرون بأنَّ لهم بيتاً آمناً في لبنان كي يعودوا، ولا يشعرون بأنّ ما يجري في لبنان يمثّلهم أو يعبّر عنهم أو يعنيهم أو يشبههم أو يشجّعهم، هم الذين يعيشون في دول منظَّمة مُمَأْسَسَة ذات قوانين حاسمة حازمة، لا فوضى فيها ولا خروج على النِظَام والتَنظِيم والنظُم، ولا يرون أنهم قادرون على العودة والعيش في لبنان بفوضاهُ وانفلاتِ الأُمُور فيه إلى غابة مشرّعة على كل خطر، بات فيها حتى اللونُ مسيَّساً تابعاً لرمز سياسي وبات شعبنا في معظمه مَجموعاتٍ مسيَّسةً تابعةً منقادةً إلى السياسيين. أمام هذا الواقع، هل عارٌ أحطُّ بَعدُ مِما عندنا، وهل عيبٌ أوجعُ مِما حلَّ بنا، وهل بعدُ تَجد أننا ننتمي إلى وطن موجودٍ وينتظرنا كي يَجمعنا تحت سمائه؟ ألسنا، في مهجرنا، حقاً في دياسبورا: شعباً في الشَتات؟”.
يا عزيزتي غادة: كلُّ ما قُلْتِهِ في رسالتكِ الموجِعَة، سبَقَ لي أن قُلْتُهُ في هذا البرنامج بوجعٍ مرةً وبغضبٍ مرات، غضبٍ على السياسيين وغضبٍ على جُلِّ شعبنا المنقادِ عميانياً قطعانياً وراء سياسيين يمتطون كراسي شعبنا لبلوغ مراكزهم والبقاء على تلك الكراسي.
غير أن مَرَضَ أبينا، والوطنُ أبُونا، لا يدفعُنا إلى التخلّي عنه وهجرانه، ولا إلى تركه يموت، ولا إلى التشفّي به ولَعْنِه وكُرهِهِ في مرضه بعدما كنا نُحبه في صحته حين كنا ننعم بِخيراته وطبيعته والعيش فيه.
يا غادة: في كُلّ وطنٍ مثلُ ما عندَنا من فسادٍ سياسي وشعب قطيع وراء سياسيين. ليس هذا فريداً عندنا ولا غريباً. غير أن اللحظاتِ التاريخيةَ الحاسمة المصيرية تفترض أن يَظلَّ الصوتُ النقيُّ عالياً، والإخلاصُ المتينُ عميقاً، والإصرارُ على التشبُّث بالوطن قوياً، كي لا ينتهي لبنان أندلساً ثانية ولا دياسبورا يهوديةً لشعبٍ لا وطن له ويبحث عن وطن.
بلى يا غادة: نحن لن نكون الأندلسَ المطرودة من بلادها الإسبانية، ونحن لنا وطنٌ، ولسنا دياسبورا شعبٍ في الشَتات. ومهما كان في وطننا فسادٌ إداري وسياسي واجتماعي وأمني، فوحدَه تشبُّثُنا به يجعل له أملاً قوياً بأن يعود كما كان قبل أن يكفر به شعبه المهاجر. وحين يعود إلى ما كانَهُ من قبل، تأكَّدي أنّ معظم المهاجرين سيعودون، وستكونين أنتِ في طليعة العائدين: بسمةُ الأمل تشعُّ من وجهِكِ ووجوهِ أولادكِ وعزمِ فارسِ أُسرتِكِ على تأسيس مستقبل لأولادكُما، ومستقبل أولاد لبنان الذي يكونُ عادَ إلى لبنان.