الحلقة 641: “بعد جلجلةِ الحريق: القيامةُ في اليوم الثالث”
(الأربعاء 10 تشرين الأول 2007)
كانت تأخذ أولادَها كل صيف، وتصعَد إلى صديقتها في تلك الضيعة اللبنانية الجبلية، تتمتّع عن شرفة بيت الصديقة بالبساط الأخضر يمتدُّ أمامها مشعشِعاً بصنوبراتٍ باسقاتٍ ناهدات، وزيتوناتٍ مباركات مثقَلاتٍ بالخير، وحَوْرٍ وسنديان وثروة حرجية نابضة بالحياة، وبحكايات أرضٍ تلد من رحمها المباركةِ مواسمَ العطاء المتواصل، تُخصبها الأيدي الصالحةُ من الجدود فالآباء فالأبناء البررة، لتبقى خضراءَ، خصيبةً، نابضةً بالإرث اللبناني الزراعي الخصيب والخيِّر، فتأكلُ منه الأيدي التي زرعَت، وتبتهج به العيونُ التي تدعو وفاءً بطول العمر لأصحاب الأيادي، وبحفظ السلامة للمساحات الخضراء كي تظل محميَّة من كل شر.
كانت تأخذ أولادها كل صيف إلى بيت صديقتها المطل في الجبل على بساط لبنان الأخضر. والأسبوع الماضي اتصلَت بها صديقتُها، في صوتها حشرجةُ الفاجعة ونشيجُ بكاءٍ نَهنهتْه المأساة. اتصلَت، لا لتدعوها كي تأخذ أولادها إلى مطلّ شرفتها على الأخضر الجميل، بل لتنعى إليها الأخضر والبساط والخير، وتَحَوُّلَ المشهد أمام بيتها: من عرس رؤوس الأشجار الزائغة بالجمال تحت أشعة الشمس، إلى مأتمٍ فاجعٍ بعدما صارت الأرضُ سوداء، والأشجارُ جُثَثاً عموديةً متفحّمة، والخيرُ يَبَاساً، والجمالُ رماداً وبقعاً قاحلةً جرداءَ مُسْوَدَّةً بقسوة النار التي لم ترحم نبتةً ولا شجرةً ولا ناحية.
ومن هذه الضيعة الجبلية الهانئة الهادئة التي استيقظت قبل أيام على فجيعة ألسنة النار الشيطانية، إلى كل ضيعةٍ طالتها فجيعةُ النار، فَحَوَّلتْها من عرس الأخضر إلى مأتم التفحُّم الأسود البشع، ولو انّ الفحم الناجم عن الحريق سيؤول إلى غربان مستفيدين من جثث الأشجار ليستعيضوا به عن مازوت لا يحتملون أسعاره.
ذات يوم أحرق نيرون روما ليُشعل فرحةً سادية. واليوم أحرق المجرمون أخضر لبنان ليحتطبوا بجثث الأشجار. وسواءٌ كان سببُ الفاجعة: أيدي مُخرِّبةً، أو اندلاعاً طبيعياً، أو عملاً تَخريبياً، أو مَدْعاة فرحٍ لشياطين الشر المتفرِّجة ساديتها انشراحاً وهي تشهد غابات لبنان تحترق، فالنتيجة واحدة: احترقت شرايينُ كثيرةٌ من لبنان الأخضر.
على أننا (ولبنانُ اعتاد أن يحترق ويرمِّد ويقوم من رماده فينيقاً أقوى) لن نسقط عند أقدام الفجيعة، بل سنعلو على الضربة القاصمة، ونتعالى على الرماد والحريق، لنعودَ فَنُشَجِّرَ المساحات المتفحِّمة السوداء، مدفوعين بإيماننا أنّ لبنان يبقى في الإيمان به وطناً قَدَرُهُ أن يُصَعِّدَ في معارج جلجلته القاسية، مرحلةً صعبةً بعد مرحلةٍ صعبة، وأن يبلغَ قمة الجلجلة، وأن يَخونَه اليوضاسيون من أهل البيت، وأن يَجلدَه قياصرة الخيانة والتواطؤ، وأن يدعو له القيافاويون بالموت، وأن يُطعَنَ بخنجر الخيانة، ويُسقى إسفنجةَ الخل، وأن يُصلبَ على ضمير الأمم… لكنَّ قدَرَهُ أيضاً أن يعودَ فيقومَ في اليوم الثالث: أقوى وأعظم، بإيمان أبنائه البَرَرَة المخلصين.
وإنّ في شعبنا مُخْلصين كثيرين، ولا بدَّ آتٍ، يا وطني المعذَّب، قريباً آتٍ يومُكَ الثالث.