الحلقة 617: هذه الصبية اللبنانية في الرابعة والتسعين
(الأربعاء 18 تموز 2007)
لم ألتقِها يوماً، هي التي تخطّت التسعين، إلاّ وحدّثتْني عن مشاريع تعمل عليها، أو تهيِّئُ لها، أو تشرف على إنجازها. ولم أتحدّث يوماً إليها إلاّ وشعرتُ بالحيوية تنضح من وجهها الطيّب، تُشعرني بأن العمر المتقدِّم أُلْهيةٌ لذَوي العافية، وحجّة لضعاف الأمل والانهزاميين.
اعتدتُ أن ألقاها في احتفالات مختلفة لا تتردّد من حضورها ولا تتحجَّج يوماً بسنها لتعتذر عن حضورها، فهي حاضرةٌ دوماً وجاهزةٌ دوماً لتلبية كل دعوة.
أول أمس، الاثنين، التقيتُها في احتفال عام. سألتُها أين أصبحت في كتابتها لـ”صوت لبنان” سُباعية “من دفاترهم”، وكنتُ علمتُ عن مفاتحتها بهذا الأمر، فبادرتني بصوت يحمل نهدة ضيق الوقت: “سأعمل عليها قريباً جداً، فور أنتهي من الورشة التي بين يدي الآن، فأنا مشغولة جداً وأكاد لا أنام لضيق وقتي”.
وما انشغالُها؟ سألتُها بفضول الفرح. أجابت أنها تعمل على تأسيس مركز لتدريب وتأهيل المرأة الريفية، وعلى إصدار كتاب ضخم وضعته عن إنجازات زوجها الذي كان قامة لبنانية كبيرة أيام شارك مراراً في الحكم وزيراً للزراعة، وتعمل على تفعيل أنشطة “الجمعية اللبنانية للحرية والسلام”، التي أنشأتها قبل سنوات وتنشط على تثمين فاعليتها، كما تعمل على كتابة المراسلات الكثيرة لمعالجة دعوات متتالية تأتيها الى مؤتمرات دولية حول مواضيع نسائية واجتماعية، وأحدثُها مؤتمر في بوليفيا أرسلت إليه سيداتٍ زوّدتْهُنَّ بتعليمات لبنانية وبمنشوراتٍ كثيرة بينها كتيِّب صدر مؤخراً عن الفنان اللبناني الكبير مصطفى فروخ، لإطلاع المؤتمرين هناك على وجوه من التراث اللبناني.
وبالحيوية نفسها راحت تُخبرني عن أنشطة كثيرة تهيِّئُ لها، من ضمن “جمعية إنعاش القرية”، التي أسستها قبل أكثر من نصف قرن، وتحديداً سنة 1951، وباتت اليوم من أكثر الجمعيات النسائية نشاطاً وحيوية وفاعليةً لتفعيل القرية اللبنانية.
وفيما سيدات لبنانيات في مثل سنها أو أصغر بكثير، يمضين وقتهن صبحيات وزيارات وأراكيل ولعب ورق، أو همهمة في سرير الشيخوخة أو العجز أو النق من العجز، تمضي هذه السيدة الرائعة في الحلم بمشاريع مستقبلية تُخطِّط لتنفيذها.
وحين عيَّدتُها بعيد ميلادها الرابع والتسعين، وهي من مواليد بيروت في 26 حزيران 1913، ابتسمت وأردفت: “العمر مساحة عمل ونشاط وعطاء”.
أربعة وتسعون عاماً، وهي، يا ما شاء الله، في عز عطائها ونشاطها، وأكثر: في عز تهيئتها مشاريعَ جديدةً يُتيح لها تنفيذَها ما في قلبها من عزم وعمل وأمل على تنفيذها كأنها لا تزال في أول العمر.
وإنها لكذلك، في أول العمر، هذه الصبية اللبنانية في الرابعة والتسعين، رمز المرأة اللبنانية الناشطة العاملة الفاعلة المشعةِ حولها أملاً وحيويةً وتفاؤلاً، وعزماً على عمل متواصل لا يلويه عمر ولا تعيقه سنوات شيخوخة.
بلى، إنها رمزٌ مضيءٌ للمرأة اللبنانية، هذه الصبية التي، في الرابعة والتسعين، “مشغولة” بِمشاريع جديدة.
صبية لبنانية، في الرابعة والتسعين، اسمها: “السِّتّ أنيسة”… “السِّتّ أنيسة نجار”.