608: ربيتهم بدموع عينيّ لتراهم عيونُ الآخرين

الحلقة 608: ربيتُهم بدموع عينيّ لتراهم عيونُ الآخرين
(الأحد 17 حزيران 2007)

زُرْتُه صباحَ أمس السبت بعد انقطاع عنه طويل. كان كتلةَ هَمٍّ وحزنٍ عميقين، مع أنّ حوله ابنيه وابنتَه التي تزوّجَت، كما علمتُ، قبل أشهر ثلاثة.
شو القصه يا أخي؟ ورغرغَت عيناه بدمعة حافية أبى عنفوانُه أن تنْزلقَ على خدِّه المجعَّد باليأْس المالح.
شو القصه؟ وتناولت زوجته الكلام، مع أن صوتها كان يُجهِش بما أبلغُ من البكاء. قالت:
– إبنُنا البكر أنجز الماجستر الصيف الماضي، وأمضى طوال هذا العام باحثاً عن عمل يتناسب واختصاصَه العلمي، فلم يجد، بسبب الأوضاع التي لم تستقر منذ الصيف الماضي. أرسل سيرته وشهاداته إلى مؤسسات أميركية ذات صلة باختصاصه، فجاءه قبولٌ من مؤسسة كبرى في كاليفورنيا قدَّمت له عَرضاً مغْرياً وضماناتٍ وثقى، وها هو يتهيِّأ للسفر إليها بعد أسبوعين.
ابنُنا الأوسط نجح في سنته الجامعية الرابعة، ويتخرَّج في مطلع تموز المقبل، ولم ينتظر كأخيه أن يبحث في لبنان عن عمل يتناسب واختصاصَه، فاتصل بأصدقاءَ له في دُبَيّ أمّنوا له معهم، في الشركة نفسها هناك، وظيفةً يبدأ باستلامها فور يرمي قبَّعة التخرُّج في الهواء ويطير مع الهواء بعدها بيومين إلى دُبَيّ.
ابنتُنا الوحيدة، يئس عريسُها، في المؤسسة التي يعمل لديها، من مماطلة رؤسائه في تحسين وضعه الوظيفي والمعيشي والضماني، فاتصل في المملكة العربية السعودية بابن عمه الذي نجح في تأمين وظيفة له هناك براتب مُغْرٍ جداً وضمانات مغرية، وها هو يتهيّأُ مع عروسِه ابنتِنا ليترك هنا وكلَّ مَن وما هنا، ليسافرا إلى جدّة.
وغصَّت الزوجة بكلمات حشرجَت في قلبها وكلِّ وترٍ من أوتار صوتها، فتناول الحشرجةَ منها صديقي زوجُها وواصل من عمق حزنه المدلَهِمّ:
– هو هذا وضْعُنا يا صديقي. تسألني “شو القصه”؟ هذه هي القصة. كان بيتُنا زوغةَ فرحٍ بأولادنا الثلاثة الذين ربيناهم بدموع عيوننا، وها هم يطيرون إلى بلدان الآخرين لتراهم عيون الآخرين. كان بيتُنا نوراً بهم، وها بيتُنا سيُظلم على والدٍ ووالدة يعيشان ذكريات أولادهما وينتظران منهم اتصالاً أو رسالةً أو تطميناً، وسيفرغ البيت من زوغة البيت. ربّيناهم ليلقاهم لبنان فتلقّاهم قدَرٌ خارج لبنان”.
لَم تطُل بعدها زيارتي صديقي، فخرجتُ من عنده وأدَرتُ سيارتي وراديو سيارتي ليطالعني موجز أخبار يحمل في عناوينه السياسية وتصاريح السياسيين جميعَ الأجوبة في بيت صديقي، والحزنَ في عيني صديقي وزوجته، واللعنةَ والشتيمةَ في كل بيت لبناني على فريقٍ من “بيت بو سياسة” لم يفهم بعدُ أنه، بعناده وارتباطاته وأطماعه، يقود لبنان إلى أن يصبح، بعد بضعٍ قليلٍ من السنوات، بلاداً للعُجَّز والثكالى ونساءٍ مُتَّشحاتٍ بقهر السواد أو مقهوراتٍ بغصَّة الغياب.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*