الحلقة 522: بين دمعة الضعف وغَصَّة العنفوان
(الأربعاء 9 آب 2006)
أبلغَ من كلِّ كلامٍ، أيِّ كلامٍ، وقْعِ كلامٍ، كانت دمعةُ فؤاد السنيورة في افتتاح اجتماع وزراء الخارجية العرب أول من أمس الاثنين. وكانت غصتُه غصةَ رجل العنفوان الذي يلين ولا يضعُف، يلوي ولا ينكسر، يفاوض ولا يساوم، ينتصر ولا يشمت. وهذا هو، منذ مطالعه في التاريخ، العنفوان اللبناني.
فؤاد السنيورة، في مخاطبته وزراء الخارجية العرب، خاطب كل العرب، ليقول لهم إن لبنان ليس الأخ الضعيف بل المستضعَف لأنه متروك، ليقول إن من يفترض منذ عقودٍ أن يهرعوا إليه في محنه المتتالية، تلكّأوا ولم يندفعوا، فراح هو، وحده هو، وحده لبنان، يدفع الضريبة عن كل العرب، ويستشهد شعبه عن كل العرب، ويحارب وحده عن كل العرب، ووحده يواجه عدواً يعتبره العربُ كلُّهم عدوَّهم ولم يبادر أحد منهم إلى مواجهته كما واجهه لبنان.
فؤاد السنيورة قال للعرب (ولو لم يقلها مباشرةً) إن لبنان ليس أخاهم في رخائه وهناءته وحسب، ليس مجرد مصيِفهم يأتون ويُمضون أياماً رغيدةً في مناخه وجباله وبحره، وليس مجرد ملجإهم يهرعون إليه هرباً من أنظمتهم التوتاليتارية أو الصارمة فيعبّرون فيه أو يأمنون فيه أو يطمئنّون فيه، وليس مجرد متنفَّسِهم يقولون فيه ما لا يمكنهم قوله في ظل أنظمتهم المخابراتية.
فؤاد السنيورة قال للعرب جميعاً إنّ لبنان ليس “قوتُه في ضعفه”، بل قوتُه في حقيقته، وحقيقتُه أنه ضرورة للعرب ولهذا الشرق، ضرورةٌ بتركيبته الفذة، ضرورة بإرثه الفذ، وضرورةٌ بوجوده قِلادة على صدر هذا المتوسط: حضور المتوسط بلبنان غيره بدون لبنان. وهذه هي الحقيقة اللبنانية.
فؤاد السنيورة، أمام وزراء الخارجية العرب، لم يبكِ دمعَه ولا دمع لبنان، بل بكى العرب. وكأن السادة الوزراء الضيوف، حين وقفوا، بكل نُبْل، مصفّقين لفؤاد السنيورة، كأنما وقفوا لشرفهم هم، وشرف بلدانهم التي شعرت أن حضورها إلى لبنان لدعم النقاط السبع في وصفة فؤاد السنيورة، إنما هو دعم لشرف العرب في المحافل الدولية التي كانت تعتبر العرب رقماً سائغاً، ولبنان رقماً سهلاً في معادلة الدول.
فؤاد السنيورة، لحظة شرَق بدمعه، شرَق بغصة الأمهات الثك إلى والأرامل والنائحات، شرق بغصّة الأطفال اليتامى الذين تبدّدوا، والناس الذي تشردوا، والشهداء الذين سقطوا، فكانت دمعةُ فؤاد السنيورة دموع اللبنانيين الأحياء على اللبنانيين الشهداء، أو مشاريع الشهداء إن لم يتحرك العالم، ولم يبادر العرب.
فؤاد السنيورة لم يضعف: قال “لا أريد”. قال “لا أقبل”. وقالها من موقع القوة التي هي الحق والحقيقة والاستحقاق.
في هذه المرحلة الصعبة من تاريخ لبنان، مرحلة القرارات المصيرية، كان لا بدّ من رجل دولةٍ يكون كلامه “نعم نعم” و”لا لا “، رجل قرار يفاوض بليونة الحق وصلابة الحقيقة اللبنانية وشرف لبنان وعنفوان لبنان. وثبُتَ أنه هكذا: فؤاد السنيورة.