الحلقة 523: قيام الدولة شرطُ قيامة لبنان
(الأحد 13 آب 2006)
بين الدخان الأسود الكثيف يطمر المشهد العسكري، والأصوات الراعدة تدوّي في أجواء لبنان، وصواريخ العدوان الفاحش تتساقط موتاً يومياً على شعبنا، جاء إقفالُ السبلِ البرية والبحرية والجوية ليهدّد بكارثة بشرية رهيبة عندما سيعلَنُ وقف إطلاق النار ووقف العمليات العسكرية وعودة المرافق إلى عملها الطبيعي.
هذه الكارثة مزدوجةُ الخطر: مِن اللبنانيين مَن تَمكّنوا من المغادرة مع إجلاء الرعايا المزدوجي الجنسية (ومعظمهم تركزوا هناك حيث حلُّوا واستقروا وبدأوا يبحثون عن طرق للبقاء هناك والاستقرار في هذا الهناك)، ومِن اللبنانيين مَن ينتظرون فتح المرافق براً أو بحراً أو جواً ليرحلوا عن وطن الأرض المحروقة والآمال المحروقة والمستقبل المحروق، إلى أيِّ هناك يستقبلهم ويستقرون فيه، وربما يبدأون بالعمل فيه على البحث عن عمل واستقرار.
ما أصعب هذا القدر اللبناني: يُطلع لبنانُ شباباً وسع مـدّ الطموح والعبقرية والإبداع، حتى إذا ضاقت بهم آفاقُ الوطن (حرباً أو صراعاتٍ داخلية أو أحداثاً أمنية محلية) طاروا كالسنونو المهاجرة إلى الآفاق الرحيبة، يَنشدون وساعة آفاق بعيدةٍ ترحّب بهم (مواطنين أو ضيوفاً) معزَّزين مكرَّمين بكامل حقوق الإنسان، ووساعة فرص العمل، وهناءة الاستقرار السياسي والأمني، وتالياً بكل شَسَاعة المستقبل. وكم رأينا وعرفْنا لبنانيين هاجروا من لبنان تحت ضغطٍ ما، أو شدَّةٍ ما، أو ظروفٍ قاسيةٍ ما، واستقرُّوا في حيثما نَبَغوا وبرعوا وسجّلوا للعلم أو للثقافة جديداً، يباهون به هناك، وتباهي به البلدان التي آوتهم هناك، ويباهي بهم لبنان نوستالجيّاً من هنا عبر البعيد البعيد.
تشاؤمٌ في هذا الكلام؟ بل بالعكس. إنه البحث، وسط هذا الدخان الكثيف اليوم من القذائف والصواريخ، عن الطريقة التي يُمكن أن تُعيد الذين غادروا، وأن تقنع الذين لم يغادروا بعد، ألاّ يغادروا.
والطريقة الوحيدة التي تلوح اليوم في الأفق القاتم (ولو غيرَ مَجلوَّةٍ بعد) هي الصرخة العامة الإجماعية على بناء الدولة وتسليم الدولة مقدّرات البلاد، وهو ما يسمعه لبنانيونا في الخارج والداخل، عن الإجماع المحلي والإقليمي والدولي على النقاط السنيوريّة السبع، وعلى الارتياح الذي ولّده إجماعياً قرارُ إرسال جيش لبنان إلى الجنوب.
بلى، وحده الخلاص: قيامُ دولةِ لبنان القويةِ الواحدة، الموحَّدَةِ الرأي، المركزيةِ القرار، الدولةِ التي تعامل أبناءها بحسب مواهبهم لا مذاهبهم، بحسب طاقاتهم الإبداعية لا بطاقاتهم التوصَوِيّة، بحسب كفاءاتهم لا انتماءاتهم. وهذه هي الدولة التي ستستعيد أبناءنا من العالم ليعمِّروا بمواهبهم لبنان، وهي التي ستقنع أبناءنا هنا ألاّ يعودوا يتطلّعون إلى أيِّ هناك.
وإلاّ… إن لم تكن تهدّمت، مع كل هذا الدمار، دولةُ المزارع والقبائل والعشائر والمحاصصات والمحسوبيات، فعبثاً نسعى إلى ضمان مستقبل أبنائنا، ولو صدَرَ عن مجلس الأمن ألفُ قرارٍ بوقف دائم لإطلاق النار.