الحلقة 513: الياس الهراوي والشعراء
(الأحد 9 تموز 2006)
كان ذلك في أيار 1996، ونحن نحتفل بالذكرى العشرين لغياب شاعر لبنان الكبير أمين نخلة سنة 1976.
يومها قصدتُ إليه في القصر الجمهوري، سائلاً إياه رعاية المهرجان الذي دعوت إليه شعراء أصدقائي من الدول العربية: من سوريا، من الأردن، من العراق، من مصر، من العربية السعودية، يتساجلون شعراً في شاعرنا الكبير.
لم يتردد في قبول رعاية المهرجان. سعيتُ إلى “مَونةٍ” أكثر بما أعرف عن محبته إياي وصداقةٍ لي طويلةٍ معه، فرويتُ له أنْ قبل أيام من زيارتي إياه نقلَت فرنسا رفات كبيرها أندريه مالرو من ضريحه الخاص إلى البانتيون، وكان على رأس المحتفلين رئيس الجمهورية جاك شيراك شخصياً لا بممثل عنه، تقديراً منه لكبير من فرنسا الأدب. وأذكر التفاتته صوبي قائلاً بزحلاويةٍ نبيلة: “ومن قال إن جاك شيراك أكثرُ اعتزازاً بأدباء بلاده من اعتزاز الياس الهراوي بأدباء لبنان. سأحضر المهرجان”. واستفادةً من تلك اللحظة الزحلاوية، غامرتُ بـ”مَوْنةٍ” أُخرى عليه خلْتُهُ سيرفضها لكني تَجاسرتُ وطلبتُها فقلتُ: “فخامة الرئيس، تبقى بادرة واحدةٌ بعد، تتوّج بها موافقتَك على الرعاية والحضور”.
– “شو فيه بعد”؟ قالها بنبرة أبويةٍ يخاطب بها ابناً ملحاحاً. فقلتُ: “وماذا، يا فخامة الرئيس، وأنت ترعى وتحضَر، ماذا لو تلقي أنت كلمة لبنان”؟ استكبر السؤال، لكنَّ ثواني نُبلٍ لبناني زحلاوي عصفت به، فقال: “سأرعى، وأحضَر وأُلقي كلمة لبنان”. وهكذا كان: وألقى رئيس جمهورية لبنان كلمة لبنان في مهرجان شاعر كبير من لبنان، وكان ذلك فريداً على عالم الشعر والشعراء في لبنان، أن يقف رئيس جمهورية لبنان على منبر الشعراء الكبار.
وشئتُ ألاّ تبقى يتيمةً تلك البادرةُ الفريدة. وحين كنا بعدها بعام واحد، في حزيران 1997، نُهيِّئ في القصر البلدي زوق مكايل لخمسينية غياب الياس أبو شبكة سنة 1947، قصدتُ إلى الرئيس الهراوي من جديد، سائلاً إياه رعاية المهرجان فوافق، وجرؤْتُ من جديد على سؤاله الحضور، فلم يتردَّد بالموافقة، تحفزه على ذلك محبتُه لسميّه الياس أبو شبكة، وصداقتُه مع سيد القصر البلدي نهاد نوفل، وأبوّتُه تجاهي بعد نصاعة التجربة السابقة، العام السابق، في مهرجان أمين نخلة.
وحضر الرئيس الهراوي، وأصغى إلى كبار الشعراء المشاركين: من سوريا (سليمان العيسى) ومصر (فاروق شوشة) والعراق (عبدالوهاب البياتي) والسودان (محمد الفيتوري) ولبنان (سعيد عقل)، وإدارة المهرجان (لصديقه الكبير فؤاد الترك). يومها لم يتكلم الرئيس الهراوي، لكنه، إلى مائدة الغداء بعد المهرجان، راح يباسط الشعراء ويصغي إليهم ويغتبط بشعرهم ويستزيدهم، وعلى وجهه المزهوهر بالبسمة والإشراق بِشْرُ الغبطة والانشراح.
ظهر اليوم، يودعه لبنان في بيروت، وبعد ظهر اليوم تودعه زحلتُهُ الغالية، ومع هذا الغروب اليوم، يغرب عن لبنان رئيسٌ كان من بعض ميزاته في الحكم، أنه أحبَّ الشعر وعرف كيف يكون أن يُحبَّه الشعراء.