الحلقة 493: أسئلة ساذجة في واشنطن
(الأحد 30 نيسان 2006)
في الطريق بين مطار واشنطن والفندق، حلا لي أن أتظاهر بالسذاجة وأسأل سائق التاكسي، لدى وقوفه عند إشارة حمراء، عن قيمة المخالفة عند عبور الطريق على الضوء الأحمر. استغرب السؤال وقال إن هذا لا يحصل. عدتُ أسأل فاشتدّ استغرابه وكرر الجواب أن هذا لا يمكن أن يحصل. أصررتُ على السؤال فأجاب ببعض تأففٍ من سذاجتي أن المبلغ موجِعٌ، لكنّ الأشد وجعاً منه تسجيل نقاطٍ على رخصة القيادة حتى إذا تراكمت هذه النقاط وبلغت رقماً معيناً سُحِبَت رخصة القيادة من السائق لفترةٍ، ثم لأطول، وقد يتعرض للسجن عقاباً.
شكرتُ السائق على معلوماته، وانتظرتُ قليلاً ثم أبديتُ له، بسذاجةٍ أخرى، إعجابي من سلاسة الطريق وخلوِّها منالحُفَر والمطبات والريغارات والتشققات والخضخضات والسواقي والقنوات في عرض الطريق، فنظر إليّ بلفتةٍ في بعضِها شفقة وفي بعضها الآخر استهجان، وتحامل قليلاً على أعصابه وقال لي: “وهل من الممكن أن تكون الطريق غير ذلك؟ أليس هذا واجب الدولة أن تؤمن لنا طريقاً سوياً كالسجادة؟ وإلاّ فأين تذهب أموالنا والضرائب التي ندفعها للدولة كي تؤمن لنا أبسط الظروف اللوجستية؟”.
وفي بقعة أخرى من الطريق، أبديتُ إعجاباً آخر من نظافة الجانبين وخلوّ الطريق من الزبائل والأوساخ وارتداع السائقين عن رمي أي نفاية من نوافذ السيارة، فأجاب باختصار: “ولم تتعجب؟ أليست هذه وظيفة الدولة”؟
فقلت له: “ألم تتأثروا هنا بالأحداث التي جرت وتجري عندكم في الولايات المتحدة أو لجيوشكم في الخارج”؟ فأجاب بحزم: “وما دخل الشعب بالسياسة؟ وما علاقة مجريات السياسة والأمن بواجب الدولة في تأمين أبسط التسهيلات للشعب من نظافةٍ وطرقاتٍ وخدماتٍ أولية بديهية؟ الناس إلى أعمالهم وأشغالهم، والدولة إلى واجباتها. السياسة من شغل السياسيين، والشعب له اهتماماته الأُخرى”. ولما رآني هششت لهذا الجواب، استفسر ببعض ازدراء: “أراك تجد في هذا الكلام غرابةً وهو بداهة. أليس الأمر عندكم كذلك؟ من أيّ بلدٍ أنت”؟
تظاهرتُ بأنني لم أفهم سؤاله وسألته كم من الوقت يلزمنا بعد كي نبلغ الفندق، فأشار بيده: “هذا هو الفندق. وصلنا”.
وفيما هو يُنْزِل حقيبتي من صندوق السيارة، كانت له عينُ واجبٍ على الحقيبة، وعينُ شفقةٍ عليّ أن أكون من بلدٍ متخلّفٍ يندهش أبناؤه من طريق بلا حُفَر، ونظافةٍ على الطريق، وسائقوه يعبرون الطريق على الضوء الأحمر.
كنتم معي في واشنطن. إليكم بيروت.