الحلقة 284: لبنان ليس جزيرةً بل منارة
(الخميس 24 آذار 2005)
بعد حلْقَةِ أمس الأربعاء عن اللَبْنَنَة، اتّصل بي صديقٌ قديمٌ من باريس هَجَّ الى باريس منذ عشرين عاماً كافراً بلبنان وكلّ ما هو لبناني، وكنا معاً منذ مطالع الحرب نعمل على ترسيخ لبنان في وعي مُحيطنا.
اتّصل بي معترضاً على اللَبْنَنَة التي تحدثتُ عنها أمس، مؤكداً أنّ مَن يعيش في الخارج، ويطْلَع، قال، الى العالم الواسع، تتَّسع رؤيته الى العالم، فلا يعود منكمشاً في بيئة ضيّقة ومقاييس صغيرة ونظرة مَحصورة. وأردف الصديق القديم: “وسِّع نظرتَك يا صديقي، لبنانُ ليس جزيرةً في مُحيطه، فكيف تعزله وتنادي بهويّة اللبننة تاجاً على جبين اللبنانيين”.
جزيرة، يا صديقي؟ وما بها الجزيرة؟ ومن قال إن الجزيرة تعني بالضرورةِ الانعزال والانفصال عن المحيط؟ ومن قال إن البَرّ وحده وَصْلٌ، والبحرُ يفصُل ولا وصْلَ له؟
هذه جارتُنا قبرص، جزيرةٌ هي، فهل هي معزولة؟ جُزءٌ منها تركي، والآخَر يوناني، بعض ولائها لتركيا وبعضُه الآخر لليونان، ولكنّها كلَّها أوروبية، عضوٌ في الشراكة الأوروبية، وتعمل على انضمامها الى الاتّحاد الأوروبي.
جزيرة؟ وما بها الجزيرة؟ أليس أفضل أن تظلّ جزيرة مستقلّةً ذاتَ كيان وهويّة مستقلّة، من أن تكون قطعةً على اليابسة تابعةً أو ملحقةً أو حبةً في مسبحة مُحيطها أو مستعمَرةً مربوطةً بدولةٍ أخرى؟
لا، يا صديقي القديم، اللبنانيُّ ليس جزيرةً منعزلة، ولا حبّةً في مسبحة أحد، ولا تابعاً ولا ملحقاً ولا نقطةً في بَحرٍ، ولا حبَّة رملٍ في صحراء. ولبنان كيانٌ مستقلٌّ به اعترفت الدُّوَل والأُمم المتّحدة، له حضوره اللبناني في مُحيطه والعالم، ولا يضيره أبداً أن يكون كياناً لبنانياً ليست له صفة أخرى، وليس له نعت آخر يُلصقُه أو يضمّه أو يلحقه بأي كيان آخَر.
لبنان، كيانٌ مصطنَع ذو حدودٍ مصطنَعَة؟ وأية حدود على هذه الكرة الأرضية ليست اصطلاحية؟ ماذا بين فرنسا والمانيا؟ ماذا بين السنغال وغينيا؟ ماذا بين الأرجنتين والتشيلي؟ ماذا بين الأردن وسوريا؟
فلماذا نصوّر لبنان ذا حدود مصطنعة وكيان مصطنع؟ كلُّ حدودٍ اصطلاحية، كل كيان افتراضي حتى يَشُعَّ ما داخلَ حدوده من تَمايُزٍ في سكانه، وما داخلَ كيانه من خصوصيةٍ في شعبه. الخصوصية ليست ميزةً جغرافيَّةً بل ميزةُ شعبٍ واحدٍ ذي ميزةٍ وخصوصيةٍ تَجعلان للكيان هُويةً تكون هُويةَ هذا الشعب بالذات، وخصوصيةً تكونُ خصوصيةَ هذا الشعب بالذات، بها يجاهر، وبها يفاخر، وبها يتميَّز فلا يُعيرها ولا يستعير سواها.
اللَبْنَنَة؟ إنها تعني كلّ هذا. وهي هذي خصوصيتُنا: هويةً وكياناً وشعباً منارةً في هذا الشرق، تشُعُّ بِما صدح بها قدموس لبنان سعيد عقل:
سوف نبقى… يشاء أم لا يشاء الغير فاصمدْ، لبنان، ما بك وهنُ
سوف نبقى لا بدّ في الأرض من حق وما من حق ولم نبق نَحنُ