الحلقة 259: … واليوم غابت للمرة الأخيرة
(الخميس 10 شباط 2005)
التي قال لها: كُلُّ حَيٍّ يَموتُ، إلاّ هوانا أعَلى الأرض من يُحبُّ سوانا؟
نَحن والناس، نَملأُ الأرض حباً وهُمُ يَملأُونَها نيرانا
التي قال فيها: أقول لقلبي إنها الصدق في الهوى وفي قلبها حبٌّ لغيرك ما خفقْ
ويا شعراءَ الأرض ما أصدق الندى إذا ابتسمَت ليلى وما أكذبَ الورقْ
التي قال عنها: أنتَ يا ربّ ما خلقتَ جَمالاً مثلَها في الملائك الأنقياءِ
أنت يا ربّ ما خلقتَ نساءً مثل ليلى نقيةَ الأحشاءِ
هذه الـليلى، التي غنّاها الياس أبو شبكة كأنقى ما يكونُ الشعر وأنقى ما يكونُ الحب، نودِّعُها بعد ظهر اليوم، بعدما غابت عنا صباح أمس للمرة الأخيرة.
للمرة الأخيرة، لأنها غابت غير مرةٍ من قبل.
غابت ليلى (ليلي) للمرة الأُولى حين لبست الحداد خمس سنواتٍ على شاعرها الياس أبو شبكة بعد وفاته، ما أثَّر بتوفيق يوسف عوّاد حين زارها بعد ثلاث سنوات على غياب الشاعر ووجدها لا تزال في الحداد، فكتب قصيدته ذات الوشاح الأسود:
وشاحها الأَسودُ يا ليلة غارت على الأُفق دراريها
سكرى بما تعصر من قلبها في أكْؤُسٍ من عهدِ ماضيها
صماءَ تصغي بانخطافٍ الى أغنية مات مغنيها
وكانت تغيب عنا ليلي كلما تَجمعنا الى صالونها الرحب في زوق مكايل، فتقول لنا: “إقرأُوا من شعره” فنروح نقرأ لها شعر أبو شبكة فيها، وتغيب عنا هنيهاتٍ بعيدةً الى ذكرياتها معه، حتى إذا انتهينا من القراءة وعادت إلينا، تنهدت وقالت متمتمةً: “كم كان يعرف أن يُحِبّ”.
وغابت عنا ليلي قبل سنوات حين هاجمها الألزهايمر فكانت في مرحلته الأُولى تغيب عمَّا وعَمَّن حولها، إلاّ إذا بَدأْنا ببيتٍ من شعر أبو شبكة فيها، أكملت لنا القصيدةَ غيباً رغم الألزهايمر.
قبل خمسة عشر يوماً بالذات، الخميس الأسبق 27 كانون الثاني، وفي الحلقة 247 من هذا البرنامج، كانت الذكرى الثامنةُ والخمسون لغيابه. واليوم، الخميس بعد خمسة عشر يوماً، غيابُها هي، ونودّعها اليوم الوداع الأخير، ونحن نتذكر قول أبو شبكة فيها:
كأنكِ شطٌر من كياني أَضَعْتُه ولَما تلاقينا اهتديتُ الى أصلي
ولعلّهما اليوم، التقيا، واهتديا بعد فراق ثمانيةٍ وخمسين عاماً. فلْيَكُن لقاؤُهما منذ اليوم، لقاءً سماوياً لا تفسده ألْسنٌ نَمامةٌ، ولا تصيبُه عيونُ حُسّاد.