الحلقة 258: خذوا الصحة من الرجل المريض
(الأربعاء 9 شباط 2005)
استمعنا هذا الصباح، قبل نحو ساعة من الآن، الى المؤرخ الدكتور عصام خليفة، يتحدث الى وردة الوردات في الجزء الثاني من برنامجها الصباحي “مش كلنا ولاد بيروت”، وكنا أصغينا إليه مساء الاثنين أول أمس في مُحاضرته الممتازة لدى مركز التراث اللبناني في الجامعة اللبنانية الأميركية، يكشف عما في الأرشيف العثماني من تفاصيلَ دقيقةٍ عن المناطق اللبنانية التي كانت تحت سيطرة السلطنة العثمانية، هذه التي يسمونها “الرجل المريض”.
الرجل المريض؟ ربما. خبراء التاريخ أقدر منا على تشخيص المرض وتعداد العوارض. ولكن دولة الرجل المريض، التي دخلت بلادنا سنة 1516، تمكنت بعد أربع سنواتٍ من وجودها عندنا أن تُحري إحصاءً دقيقاً مفصلاً أين منه دقة الإحصاءات اليوم. فسنة 1519، كانت السلطنة العثمانية أنجزت إحصاءً للجبل اللبناني شمل أدق التفاصيل والأرقام لعدد البيوت وعدد السكان (ذكوراً وإناثاً) وموجوداتهم أراضيَ وأشجاراً وماشية، وعن وضعنا الاقتصادي تجارةً وزراعةً وماشيةً وطواحينَ ودواليب حرير ومعاصر عنب وزيت، وعن وضعنا التاريخي والدمغرافي وعن أوقافنا ومردودها المالي، وعن تقسيماتنا الإدارية قرىً ومزارع ونواحي وألوية وولايات، وعن وضعنا الصحي والعسكري والاجتماعي، وجميعها مسجلة في “دفاتر الطابو” التي عمل عليها الدكتور عصام خليفة بحثاً وتنقيباً وتقميشاً وخلاصاتٍ ووضع فيها مؤلفاتٍ خمسةً تفصل ذاكرتنا اللبنانية في دفاتر العثمانيين.
فهل يعقل أن يقوم بهذا العمل الرجل المريض، ونحن ندّعي الصحة، من غير شر، وآخر إحصاء بشري عندنا يعود الى سنة 1932؟ يعني منذ ثلاث وسبعين سنةً ليس عندنا إحصاء، وعشرات الحكومات التي تعاقبت علينا منذ الاستقلال حتى اليوم لم تكلّف أحداً أن يقوم عندنا بمسحٍ مفصل ودقيق.
“رجل مريض”، السلطنة العثمانية؟ ربما. إنما فلنتعلّم الصحة من هذا الرجل المريض، لأننا نحن في دولة لا تتنبّه الى ذاكرة الوطن، والدولة التي لا تحفظ ذاكرة الوطن، مرشحة أن تصبح دولةً في الذاكرة، وربما دولةً خارج الذاكرة! وحكوماتنا المتعاقبة، بإهمالها وإغفالها، ذاهبةٌ الى أن تصبح خارج الذاكرة فور خروجها من الحكم، وهذا مصير الحكومات التي لا تعرف معنى عقوبة التاريخ.