الحلقة 172: انطباعات من نيويورك (الْجزء الثاني): الْحمامة الضائعة والإنسان الْمضيَّع
(الثلثاء 12 تشرين الأول 2004)
فيما كنت أسير في شوارع الضفة الشرقية من منهاتن، مع صديقةٍ لي تعيش في نيويورك، وقفنا على إشارة الْمُشاة عند تقاطع الشارع 51 والْجادة الثانية، قريباً من مبنى الأُمم الْمتحدة، فلفتَني إعلانٌ على عمود الإشارة، عليه صورة حمامة بيضاء، ويتصدّره عنوان بِخط كبير: “ضاعت جولييت. من يَجدُها له جائزة”. تَمهّلتُ في قراءة الإعلان، فإذا فيه حرفياً: “منذ ثلاثة أيام، طارت الْحمامة جولييت من قفص شقّتي في ماديسون آفنيو، ولَم تَعُد بعد. لونها أبيضُ الى رمادي، وتَحمل في رقبتها قطعةً معدنية عليها اسمُها جولييت. أرجو بإلْحاحٍ مِمَّن يَجِدُها أو حطَّت عنده، له جائزة، فليتّصلْ بي على عجلٍ لأنني أكاد أُجَنُّ لفقدها فهي أغلى ما عندي في شيخوختي الْمنفردة. التوقيع: دونالد آشْلي”. وتحت الاسم، ذكرَ الأخ الملتاع دونالد رقم هاتفه ورقم الفاكس والبريد الإلكتروني، ولولا الْحياء لعاده استعبارُ أن يذكر أرقام هواتف بائع البندورة تحت بيته ومحطة البنْزين ومطعم الهمبرغر.
جولييت ضاعت، وجننتَ يا دونالد؟ نيالَك يا دونالد، وما أصغر فَجيعتَك بِحمامتِك، أيها الأميركي الْمرفّه في شقة فخمة من مانهاتن. نيّالَك! فأنت لا تدري، ولا إعلامُكَ الأميركيُّ يجعلُك تدري، ما الذي يجري لزغاليلنا البشرية في العراق وفلسطين، لكنتَ استحيتَ أن تعلن أيها الروميو العجوز عن جولييت الضائعة، في زمنٍ يشهد ضياع الإنسان في بقعةٍ من العالَم هجّ منها حمام السلام، وبلادُك أدرى، أيها الْملتاعُ الْمتفجِّعُ على ضياع حمامة.
والى اللقاء غداً في انطباعٍ آخرَ من هنا، منَ نيويورك… إليكم بيروت.