الحلقة 171: انطباعات من نيويورك (الْجزء الأول): سائق التاكسي مدمنٌ على القراءة
(الإثنين 11 تشرين الأول 2004)
في الْمرّة الأُولى لاحظتُ ولَم أعلّق. في الْمرة الثانية لاحظتُ ولَم أُعلّق.
لكنني، في الْمرّة الثالثة، لَم أستطعْ إلاّ أن أُعلّق. فهذا السائق الذي ينتظرني في التاكسي كي أعود، كلّما عدتُ إليه كي يعيدني الى الفندق، مهما تطُلْ ساعات غيابي، أراه غارقاً في قراءة كتاب.
كان لا بُدّ من مُحادثته، فافتتحتُ الْحوار بسؤالي إن كان يقرأُ كتاباً معيَّناً يُحبّه بشكل خاص، فأجاب ببرودةٍ وهدوءٍ أنّ هذا أحدُ سبعةِ كتُبٍ اشتراها قبل أيام، ويقرأُها تباعاً فيما هو ينتظر زبائن التاكسي في الْمدينة.
سبعة كتُب؟ سائقُ تاكسي يشتري سبعةَ كتب، حتى إذا فرغ منها اشترى غيرها؟
“وما هذه الكتب يا طوم”؟ سألتُه بفضولٍ شبهِ فوقيٍّ يعتري راكب التاكسي فطرياً وهو يمتطي التاكسي بلهجة الأمر. ففاجأني طوم بأنها كتبٌ في الأدب والفن والتحليل الاجتماعي. وحين سألني عني وعرف أنني من لبنان، صاح فجأَة: “ليبانون… وطن خليل جبران… “النبي” كتابي الْمفضّل، أشتريه مراراً وأقدمه هديةً في بعض الْمناسبات. ثم… كان أبي صديقاً لـداني توماس، وهو أيضاً ذو أصل لبناني من بلادكم. هلاّ حدّثتني قليلاً عن بلادكم، وطن خليل جبران؟”.
سقطَت عني فوراً لهجة الفوقية، ورُحت أحدّث طوم متلقياً مُطّلعاً يقرأ، لا سائقاً مأموراً.
ولا لزوم أن أُقارن بينه وبين معظم سائقي التاكسي عندنا، فـطوم، عدا أنه قارئٌ يَملأُ بالقراءة وقتَ انتظاره الزبائنَ ، يَختلف عن سائقي التاكسيات عندنا بثلاثة أمور أساسية:
أولاً أنه لا يدخّن، ثانياً أنه لا يزعج الراكب بطقاطيق تافهة من راديو التاكسي، وثالثاً أنه… وأنه لا يتحدّث في السياسة.
والى اللقاء غداً في انطباعٍ آخرَ من هنا، منَ نيويورك… إليكم بيروت.