من رسائلهم الى رسالاتهم (1/2)
الاثنين 21 كانون الأول 2009
– 628 –
أبْعد من أن يكون كتاب غِيُّوم أپولينير (1880-1918) “رسائل الى الفنانين بين 1903-1918” (صدر مؤخّراً عن “دار غاليمار”) مُجرّد رسائل من الشاعر الى نحو 100 مبدع في عصره رسامين ونحاتين ومصوّرين فرنسيين وأجانب، فهو يُلقي إضاءات ثَلاثاً: على أفكار الشاعر وآرائه، على نَواحٍ بارزة في شخصية فنانين طبعوا عصرهم ببصماتهم الخاصة، وعلى أوروپا الممزّقة بالحرب العالمية الأولى وكيف كان خلالها كلُّ فنان منهم يَحمي فنه ويَحتمي فيه هرباً من فظاعة الواقع.
هنا أهمية الرسائل حين يكتبها أديب برهافته الداخلية وانعكاس الخارج عليه، فتَخرج من مُجرد بثّ عواطف أو معلومات الى آراء وأفكار قد لا يتسنى له بسْطها في نصه الإبداعي. وحتى في رسائله العاطفية يظل الأديب فاتحاً نافذة على فكره وقناعاته.
فهذا أپولينير نفسه في رسالة الى حبيبته “لُو” (لويز دو كولينيي شاتيّون. التقاها في أيلول 1914 وأحبَّها وتبادل معها رسائل كثيرة) يكتب إليها في 18 كانون الثاني 1915 من نيم (حيث كان في الحرب يخدم متطوعاً في الجيش الفرنسي) فيلومها، بعد كلمات الحب، على نِظرتها الى الشعر والشاعر: “أرجوكِ يا حبيبتي ألاّ تهزإي بعد اليوم من كوني شاعراً. صحيح أنكِ تقولينها بغنْجٍ ولطف، لكنكِ قد تعتادين على التمادي فيها. ثمة شعراء كثيرون يمتهنون غير الشعر. لكن مهنة الشعر ليست خفيفةً ولا مجنونةً وليست فائضةً بلا نفع. الشعراء هم الخلاَّقون (في اليونانية كلمة “شاعر” تعني “الخلاَّق” وكلمة “شعر” تعني “الخَلْق”). وهكذا كلُّ ما يراه البشر على الأرض يبدأ في خيال شاعر. حتى الحبّ نفسه هو شِعر الحياة الطبيعي، وهو الغريزة الطبيعية التي تُخصِبنا لنَخلُق الحياة والتكاثُر. أقول لكِ هذا يا حبيبتي، لأبرهن لكِ أنني لا أزاول مهنة الشعر لِمجرّد أن أقوم بعملٍ ما وأكون في الواقع لا أقوم بأيّ عمل. مَن ينصرفون الى الشعر يقومون بـ”فعْل” أساسي أولويّ ضروريّ أكثر من أيّ فعل آخر. يقومون بـ”فعْل” إلهي. إنهم مَن يستطيعون، بألمٍ وعبقرية وعشق، أن يَخلقوا “فعْلاً” جديداً ويموتوا في سبيل الحب الذي أَلْهَمَهُم”.
بعد هذا التوضيح، يعود الشاعر الى مناخ الحب: “هذه، يا حبيبتي لُو، رسالة أخرى طويلة. إن قرأْتِها أكون سعيداً، وإن لم تقرإيها سأنتقم منك كشاعر، أي بانتقامٍ “إلهيّ”، واعلمي أن الانتقام متعة الآلهة. أحبكِ، لُو، لكنني عاتبٌ عليكِ لأن رسائلكِ الأخيرة لا تحمل لي حباً دافئاً قوياً كما سابقاتها، وسأنتظر عودة حرارة الحب الى رسائلكِ من جديد. أحبكِ يا حبيبتي”.
في اليوم التالي (19 كانون الثاني) يكتب إليها رسالة عادية: “حبيبتي، سأحاول أن أغادر نيم في قطار الثامنة مساءَ الجمعة لأصلَ الى نيس في السادسة صباحَ السبت. إذا لم أصل صباحاً، كوني على المحطة ظهراً، وإن لم أَصل ظهراً، استفسري عن القطار الآتي من نيم وموعد وصوله بعد الظهر. أَبرقي إليّ لأتأكد من استلامك هذه الرسالة”.
من ختام أپولينير رسالته الأولى بقصيدة “تطريزية” (“أكروستيش”: جمْع الأحرف الأولى من الأبيات يشكّل اسم الحبيبة) تتّضح أهمية أن يقوم بالمراسلة شاعرٌ يتوسّع من بثّ عاطفته في حبيبته الى أمور أدبية وشعرية وفكرية، فلا تعود للرسالة وظيفةٌ إحاديةٌ آنيةٌ عابرة (إيصال شعلة الحب وحسب) بل تحتمل مع بثّ الحب غاياتٍ ثقافيةً أو تثقيفية فتصبح لها قيمة أدبية دائمة ذات سجل فكري يعكس فكر الكاتب ومزاجه وموقفه من شؤون عصره ونفهم من رسالته ما جاء في رسالتها، فيُحمِّل الرسالة، مع حبّه القوي، أبعاداً أخرى بعضُها من حاضره وبعضُها الآخر من رؤاه للمستقبل، فتغدو للرسالة وظيفةٌ مستقلَّة لا تقلّ إبداعيةً عن النصّ الأدبي (شعره أو نثره)، وترتقي من نصوص الرسائل العادية الى رؤى الرسالات.
بـهذا ينفتح للشاعر (أو الأديب أو الكاتب) فضاءٌ آخر في رسائله رديفٌ لنتاجه الإبداعي، فيكون في كتاباته شمولياً كونياً، ولا يعود يقتصر في بثِّه على وحدها القصيدة أو القصة أو الرواية أو المقالة أو البحث.
وبـهذا ترتقي المراسلة الى أن تكون “فناً” كسائر الفنون الأدبية.