الحدث الثقافي ومداه الاحتفالي
السبت 12 كانون الأول 2009
– 627 –
لكل احتفالٍ مدى، فهل كل احتفال يـبلُغ مداه؟ وهل لكل احتفال ثقافي حجمُ الحدث الذي يوصل الى غايته التثقيفية؟
أبرزُ أبعاد الحدَث الثقافي أن يكون له دور فاعل في تقارب الحضارات وفتح الحوارات بين تيارات ومعتقدات تكوّن مادة “الفعل الثقافي”، وتصقل ذهن المتلقّي بتقريبه من التفاعل مع الآخر على مساحة مشتركة من العطاء والتلقّي. وهذا المدى الاحتفالي ينبع من جوهر الحدَث الثقافي ليلتقي مع المدى الاجتماعي والإنساني فيخدم اقتصاديات المجتمع وتتكوّن الفائدة عندئذٍ من الاستثمار الثقافي.
من هنا دور الحدَث الثقافي، بعناصره البشرية والمادية والفنية، لنشر الثقافة وفتح الآفاق والمساهمة في تفعيل الدور الذي تطمح إليه المجتمعات عند احتفائها باحتفال أو مهرجان أو مؤتمر أو مشهدية أو أيّ عمل ثقافي من مروحة الفنون الجميلة سمعيِّها أو البصريّ.
لذا تنتفي الحاجة الى كل حدَث ثقافي (بالمعنى الواسع للثقافة من سياحة واجتماع) ليس منه فائدة ثقافية أو اجتماعية أو سياحية على مستوى المتلقّي الفرد أو الجماعة المتلقّية. فلا فائدة من حدَث ثقافي لا يتفاعل مع مُحيطه، أو يثقّف مُحيطه، أو يتفاعل معه متلقُّوه المحليون (في مكان الحدث) أو الأَبعدون (مشاهدو الحدَث على شاشة التلڤزيون، أو القارئون عنه في الصحافة).
أهمية الحدَث (أو الاحتفال أو المهرجان) أن يكون له دور متطوّر في المحافظة على الثروات البشرية من جهة، وعلى تلك الفكرية والتراثية من جهة أُخرى، وهذا يؤمّن تنمية مستدامة في الحقل الثقافي الذي لعلّه الأحوج، أخذاً وعطاءً، الى تلك التنمية، خصوصاً في تهيئة الجيل الجديد الى مستقبل يقطف من تجارب السابقين ما يؤمِّن له جسر تواصل يعصمه من التكرار أو السقوط.
عند تأمين هذا الكيان للاحتفال الثقافي، يمكن تجاوز رمزيته الى معانٍ وقيَمٍ وأبعاد أخرى تتخطى مكانه وزمانه الى كل مكان وزمان، وبذلك يكون الاستثمار الثقافي أرضية ثابتة تتخطّى الحدَث كحدَث راهن الى جعله ركيزة لأحداث ثقافية تالية من المستوى نفسه.
بهذه العودة الى الجوهر، جوهر الاحتفال الثقافي أو السياحي (في كل سياحةٍ ثقافةٌ، وفي كل ثقافةٍ سياحةٌ ذهنيةٌ أو مادية) لا يعود العمل الثقافي تسطيحياً أو عابراً في برنامجه أو مادته، ولا يعود العمل السياحي تبسيطياً يقتصر على برنامج ترفيهي أو غنائي أو مهرجاني ينتهي “فعْله” مع انتهاء العرض.
ربما لذلك تظهر في العالم مهرجانات متخصّصة (موسيقية أو مسرحية أو أدبية) تكون غايتها إضفاء “إضافة” ثقافية الى غذاء المتلقّي، فلا تعود مشاهدة الاحتفال “حيادية” بل يصبح المتلقّي “شريكاً” في صنع الاحتفال واقتطاف فائدته. هذا هو المدى التثقيفي للاحتفال، وهذا هو مداه الاحتفالي، بين العرض والتلقّي، بين المعنى والمغْنى، بين النص والتنفيذ، بين الفكرة وتحقيقها على المسرح أو في المكان، ما يجعل جوهر العمل يشعّ على الحضور من نقطة محوره الأُولى الى أبعد شعاع في مداه.
عند توافر هذه العناصر للاحتفال الثقافي يصبح له دور فاعل في التنمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية معاً. لكنّ دون ذلك دوراً على المسؤولين (في القطاع العام أو في القطاع الخاص) أن يتولّوه لتهيئة البُنْية الملائمة أمام جمهور المتلقين. وهذا يفترض رؤية واضحة تضع استراتيجية ثقافية بيّنة ذات برنامج واضح يهدف الى التثقيف قبل العرض الأفقي، والى إيجاد التفاعل قبل تنفيذ الفعل، والى تَبَصُّرِ بُعدٍ اقتصادي للعمل الثقافي يعود بالنفع على البيئة المتلقّية، ويوجِد الحوافز لداعمي الحدَث الثقافي ورُعاته، ويسهّل بلوغه الى أوسع مساحة من جمهور يقطف منه فائدة تتخطى متعة المشاهدة الى اختزان جوهر منه يكون إضافة على ثقافة المشاهدين.
أما إذا بقي الحدَث الثقافي مجرّد متعة في المشاهدة أو المتابعة أو الإنصات، فهو يبقى مسطّح الأداء، وتالياً غير ذي فائدة، ما يجعل عمر الحدَث قصيراً ينتهي بانتهائه ولا يبقى منه أثر يُعينه على بقاء أطول. وهذا ما يُبقي في الذاكرة أعمالاً كبرى مسرحية أو شعرية أو موسيقية كانت عند عرضها ذات “فعل ثقافي” وما زالت حتى اليوم تُعاد وتُستعاد لجمهور آخر، لجمهور جديد، في موطنها وفي العالم، فتقدّم للمتلقي خُبز الثقافة لا فاكهتها، وتنقل العمل الثقافي من مكانه وزمانه الى كل مكان وزمان.
هذا هو المدى الاحتفالي لكل حدَث ثقافي. لا يكون بدونه بقاءٌ للحدَث، ولا يكون بدونه جَذْبٌ للمتلقين. ومتى فقَد الحدَث مقومات بقائه في ذاكرة متلقّيه، انتفَت فائدته وانتفت تالياً كلُّ حاجة إليه.