132: صندوق أسْوَد لهدايا المسؤولين

الحلقة 132: صندوق أسْوَد لِهدايا الْمسؤولين
(الثلثاء 17 آب 2004)

الأسبوع الْماضي، نشرت وكالات الأنباء العالَمية نصَّ تقرير حكومي سنوي يصدر عن مكتب الْمراسم في وزارة الْخارجية الاميركية، يتضمن كشفاً بهدايا زعماء ومسؤولي الدول الأجنبية عام 2003 الى رئيس الولايات المتحدة وزوجته وأُسرته ونائب الرئيس وزوجته، وأعضاء الكونغرس ومسؤولي الإدارة كباراً وصغاراً. وهو عُرْفٌ أميركي منذ 1978 أنّ كلّ متلقّي هديةٍ يقدِّمُ إقراراً بها ويسلمها الى جهات مسؤولة تتولّى تسجيلها وتوصيفها وذكرَ ثمنها، ثم تضعها في أرشيف الْمحفوظات الوطنية أو في أماكن أُخرى مشابهة .
الشاهدُ من هذا الْخبر، ليس مضمونَه (فهو عاديٌّ وطبيعيٌّ وبديهيٌّ لدى الأميركيين) بل أُسلوبُهُ الذي يشير الى الشفافية والوضوح والصدق والأمانة والتعرّي الْمعنوي في وجه شعب أميركي يدفع الضرائب للدولة ومن حقّه على الدولة أن يعرف ماذا يَجري في مكاتب السياسيين.
والشاهد أيضاً من الْخبر، إسقاطُه على ما يَجري عندنا: الْمسؤول عندنا يتسلّم هدية بِخمسين دولاراً ليُعيدَها الى الْهادي بِمئات بل آلاف الدولارات، والْحاصل أن الهدية التي يتسلّمها يَحتفظ بها في بيته، بينما التي يُهديها يُهديها من مال الدولة. وكل هذا بلا حسيب أو رقيب، كأننا في دولة “كل مين إيدو إلو”، أو في “مغارة علي بابا”: معظمُ كبارِ الْمسؤولين نَموذجٌ سَيِّئٌ للمسؤولين الأصغر، والْمسؤولون الأصغر نَموذجٌ فاسدٌ للمسؤولين الصغار، والنتيجة… تعرفونها أكثر مني.
وإذا كان في كل طائرة صندوق أسود يسجِّل كلَّ مُجرياتِ الرحلة في الْجو، فإننا أبناء دولةٍ لا ضرورةَ فيها لصندوقٍ أسود، لأن الشفافية تنقِّطُ من معظم الْمسؤولين، الذين يتباهون لا بصدقهم وإخلاصهم، بل بشطارتهم الْمِركنتيلية التي تَجعل منهم زعماءَ لا على شعبٍ واعٍ بل على قطعانِ أتباعٍ وأزلامٍ ومَحاسيب، يَجعلون من الدولة مزرعة للخوشبوشية والْمعليشية، تنادي كل صباحٍ لشبابنا الْمثقفين الْمنتشرين في العالم: “يا مهاجرين ارجعو غالي الوطن غالي”، وإذا لم يسمعوا، ترفع دولتُنا صوتها أكثر لتنادي: “تَحت السما ما فيه متل لبنان”.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*