الحلقة 133: … نثرٌ يساوي الشِّعر في تساؤلات أنيس مسلِّم
(الأربعاء 18 آب 2004)
في غمرةِ الموجةِ التي لا تزالُ تستعيرُ من الشِّعر إسْماً ووهجاً ظنّاً منها بأنّها ترفعُ من شأن النثر فيما هي تُهينُ النثر ولا تُقارِبُ الشِّعر، يَجيءُ جديدُ أنيس مسلِّم “تساؤلات” ليثبِتَ أنَّ النثرَ العالي، النثرَ الأنيقَ المشغول، نثرَ “نَهْجِ البلاغةِ” و”المفكّرة الريفيّة” ليس أقلَّ من الشِّعر جمالاً وشُغلاً وعُلوَّ بثٍّ وأدباً عالياً. فمثلَما لا يشفَعُ بالنثر رصفُهُ عمودياً حتَّى يُسمَّى شِعراً ولو سُمِّيَ قصيدةَ نثر أو شعراً منثوراً أو نثراً شعرياً أو شعراً حديثاً إلى سائر الليستة، كذلك لا يشفَعُ بالنَّظم رصفُهُ عمودياً بصدرٍ وعجزٍ ورويٍّ وقافية حتَّى يُسمَّى شِعراً. من هُنا ليس كُلُّ نظمٍ شعراً ولا كُلُّ نثرٍ نثراً جمالياً عالياً.
أنيس مسلِّم، في جديده “تساؤلات” (الصادر حديثاً عن التعاونية اللبنانية للتأليف والنشر)، تَماماً كما في كتابه السابق “أيام الزهر”، نسج نثرَهُ مشغولاً أنيقاً متأنيَ البثِّ والخَطْرةِ الهدلى، فطلع علينا بمقدِّمةٍ طرّزها من رياض الذهن إلى إشكاليات الحياة فجاءت نظريةً في أدبِ الجماليا وفي جماليا النثر، وحاك كتابه في ثلاثة أقسام: “غمرٌ من سخاء الفقراء” و”حزنٌ في ظلال الرجاء” و”عَودٌ إلى أزمنة التجلّي”، ثلاثاً وثلاثين مقطوعةً نسجها بأصفى جماليا النثر حتَّى عادلَتِ الشِّعر نسجاً وحياكةً وشُغلاً فنياً صَقيلاً، فأثْبتَ أنَّ الأدب العالي، شِعرَه ونثرَهُ، لا يُساوِمُ على المستهلَك، ولا يسقط إلى خِدَع التسميات، ولا ينحَدِرُ إلى هرطقات الموضة الدارجةِ اليوم: بأن يُسَمّى كلُّ نَظمٍ شِعراً، وأن تُلصق بالنثر كلمة قصيدة نثر حتّى يُرفَع من شأنه. فتسمية النثر شِعراً لن ترفعه إلى مستوى الشِّعر، وتسمية النظم شِعراً لن تَجعله شِعراً. ورُبَّ نثرٍ عالٍ، كنَثر أنيس مسلِّم، يُعادلُ الشِّعر الشِّعر في مراتِبه ومستوياته العليا.