الحلقة 60 – … وسيبقى الكومبيوتر بلا قلب ينبض
(الجمعة 7 أيار 2004)
روى لي سفيرنا الْجديد في تونس الصديق شكري عبّود أنه “ضبط” ابنته قبل يومين في حوار “تشاتي” طويل على الإنترنت (والـ”تشاتي” هنا من كلمة “تشات” الداخلة حديثاً على قاموسنا وهي الْحوار مع الآخر على الشاشة عبر الإنترنت). وبعدما طال حوار ابنته الى وقتٍ غير طبيعي، دخل عليها مستفسراً عن هذا الْحوار الذي يبدو مع شخص في آخر الدنيا، ليكتشف من ابنته، بكل بساطة وبراءة، أنها تتحاور مع رفيقتها في الطابق الأعلى من البناية نفسها حيث يسكنون.
وروى لي قصة أخرى عن مريض بالقلب أُصيب بنوبة قلبية حادة واضطر ذووه الى الاتصال بالْمستشفى فطالعتهم آلة التسجيل تُخيّرُهم في محاضرة طويلة بين قسم وقسم من الْمستشفى فليطلبوا الرقم كذا، ويطلبون الرقم كذا فيُخيّرُهم بين قسم وقسم آخر في القسم نفسه ولكل قسم رقم كذا، ويطلبون الكذا ليحوّلهم بدوره الى قسم القلب الذي بدوره فيه عدة فروع ولكل فرع رقم كذا. وبين الكذا والكذا كاد الْمريض يتوقف قلبه ويموت وآلة التسجيل تُحوّل الْمتصلين من فرع كذا الى قسم كذا الى الرقم كذا.
الشاهد من قصة السفير شكري عبود أن الإنسان في هذا العصر بات يفتقد حرارة الْحوار البشري، ويكاد لا يتعاطى إلاّ مع الآلة: على الهاتف مع الْمُجيب الصوتي (طبعاً من دون أن نُغفل عبقرية الصبايا مسجِّلاتِ الصوت بِخنخنة أصواتهن وأخطائهنَّ اللغوية الفاضحة)، أو مع الكومبيوتر فيجلس ساعاتٍ طويلةً أمام شاشة يكتب عليها ويرسل رسائله منها ويتلقى رسائله عليها ويقوم بأبحاثه عليها عبر الإنترنت. ومن كومبيوتر في مكتبه الى كومبيوتر في بيته الى كومبيوتر في سيارته الى كومبيوتر في كاراج سيارته الى كومبيوتر في جهازه الْخلوي، بات الإنسان آلةً روبوتية ولم يعد له من صديق سوى هذا الكومبيوتر لا يستغني عنه، فيَضيع إذا انقطعت الكهرباء ويضيع إذا نسي جهازه الخلوي في البيت ويضيع إذا كان بعيداً ولا يستطيع أن يرسل أو يتلقى رسائل إلكترونية عبر الإنترنت.
إنه الْمجتمع الاستهلاكي يُحاصرنا، يشيّئنا، يكبترنا (من الكومبيتور) حتى بتنا نخشى على الإنسان بعد سنواتٍ ألاّ يعودَ بينه وبين أخيه الإنسان رابط حميم، فتنتفي حقوق الانسان لتولد عصرئذ حقوق الكومبيوتر، حين لا يعود أمامه وجه محاورٍ حنونٌ ولا جميلٌ، بل شاشةٌ جامدة باردة تلبّي له جميع مطالبه ومصالحه، إلاّ واحداً أساسياً ضرورياً: قلب ينبض بالحنان.