لمن ” نَـكـتــبُـون”؟
السبت 24 تشرين الأول 2009
– 620 –
مع افتتاح معرض الكتاب الفرنكوفوني هذا الأسبوع (وبعد أسابيع قليلة معرض بيروت للكتاب العربي)، وبيروت 2009 عاصمة عالمية للكتاب، يجمح السؤال: لِمن يكتب الأدباء؟ لَهم؟ للقرّاء؟ لِلَذّة الكتابة؟ لإثبات الوجود؟ لِمن؟ ولِماذا؟
الأدباء الكان عليهم أن يمروا بالناشر كي يبلغوا بضع مئات من القراء أو بضعة آلاف، أما زالت لديهم هذه العقدة في عصرنا اليوم، وكلُّ كاتبٍ قادرٌ أن يبلغ ملايين القراء على موقع إلكتروني أو على “موقعه” الإلكتروني؟ ألم يصبح كلُّ متعامل مع الإنترنت كاتباً أو صحافياً أو مفكراً؟ ألم يتكاثر الأدباء بعدد المتعاملين مع شاشة الكومبيوتر؟ وهؤلاء “الكومبيوتريون” لِمن يكتبون؟ لَهم؟ لأصدقاء معروفين ومجهولين؟ لجميع زوار المواقع الإلكترونية؟ أأصبحت هذه الوسيلة الحديثة إثباتَ وجودٍ منسرح حُرّ، منفلت من رقابة رئيس التحرير في الجريدة لنشر النص، أو رأي مدير دار النشر لإصدار الكتاب؟
لِمن إذاً نكتب؟ والأدباء المحترفون، لِمن يكتبون؟ هوذا السؤال الذي ينشُب اليوم أمام ظاهرة الكتاب الورقي، والكتاب الرقمي، والكتاب الإلكتروني، والكتاب الصوتي، والكتاب البصري، والكتاب المتحرّك، وباقي مروحة الكتاب الذي يتَّخذ اليوم أبعاداً تزداد تشويقاً لقارئ تزداد أمامه فرص القراءة البصرية أو السمعية أو الإلكترونية؟
لِمن، إذاً، “نَكتبون”؟ (اختصار “نكتب” و”يكتبون”)، والكتابة أصبَحت متعدّدة، والقراءة باتت متعدّدة؟
في رأيٍ سائد أن الكاتب يبلغ الاحتراف حين يتوقّف عن الكتابة له ويروح يكتب للسوى. وأصحاب هذا الرأْي يدافعون عنه بأنّ المؤلف (كاتب كتاب أو واضع سيناريو أو مؤلف موسيقي) يضع نصه لقراء ومشاهدين ومستمعين مجهولين لا يعرفهم ولن يعرفهم، لذا عليه أن يتهيَّب متلقّيه عند وضعه نصّه، انطلاقاً من احترام هؤلاء المتلقّين المجهولين.
وفي رأي مناقض أنّ الكاتب لا يكون هو إلاّ حين يكتب لِذاته أوّلاً ومنها الى السوى. فحين يكون الكاتب هو قارئ كتابته الأوَّل، يتحكّم أكثر بنسيج نصه وذكاء إيصاله الى المتلقّي. كيف يمكن الكاتب أن يوصل قارئه الى البكاء أو الضحك أو الحزن أو السعادة عند قراءة نصه إن لم يكن الكاتب نفسه عند وضعه هذا النص شعر بالبكاء أو الضحك أو الحزن أو السعادة؟
الكاتب الذي “يُعَقْلِنُ” نصَّه أو “يُثَقِّفُ” نصَّه يجعل قارئه أمام رخام جميل لا حياة فيه، عوض أن يكون أمام شخص نابض حي. الكاتب الذي ينفصل عن نصّه، يجعل قارئه منفصلاً عنه ولو تفاعَل مع نصّه. من هنا أن هدف الكتابة الأول: التأثير في المتلقّي. وهذا التأثير لا يكون بالسكيزوفرينيا الأدبية بل بنبض الكاتب في كل كلمة حتى لكأنه موجودٌ فيها كلّه بكامل أعصابه وفكره. ومتى وصل الى هذا الحد من ملامسة قرائه، يكون بلغ أعلى مكافأة ينتظرها الكاتب من فعل الكتابة.
الكتابة للسوى، فيها تَجاوُزُ الذات. الكتابة للذات فيها انعكاس الذات على السوى، وهنا سرُّ الملامسة بين الكاتب والمتلقّي. يكتب للسوى مَن لا يبحث عن شعوره بأنه موجود في السوى. ويكتب للذات من يبحث عن شعوره بأنه موجود عبر ذاته النابضة الحيّة الجديرة بأن تتفاعل مع السوى. من هنا رأيٌ آخر: “أنا أكتب إذاً أنا موجود”، يقوله مَن يرون أنهم يكتبون لـ”يُحققوا” ذاتهم، وتالياً يُحبُّون أن يُشركوا السوى بانفعالات ذاتهم لعلّها تبلغ عند السوى تواتُرات ذاتَ صلة.
هي ذي الكتابة: فعلٌ لا عمل. والفضاءات الإلكترونية المتاحة اليوم أمام الجميع، في كلّ موضوع وكل لغة، من كلّ مكان في الأرض الى كلّ مكان في الأرض، تجعل الكتابة تعبيراً عاماً عن الذات في جميع الحالات، يكتب من يشاء الى من يشاء. لكنّ الأبقى: لحظة إبداع “يجترحها” كاتبٌ خلاّق يكتب من ذاته الى ذاته أوّلاً، ويُتقن الـ”ماذا” والـ”كيف”، قبل أن ينقلهما الى السوى عملاً أدبياً خلاّقاً يبقى على الزمن خالداً بخلود اللحظة الحقيقية التي تجعل الكتابة “فعل” خلق لا “عملاً” يَعْبُر، وحضوراً يجعل للكاتب “فعل وجود” يختصر كل وجوده.