619: سرّ التبادُع بين الريشة والقلم

سرّ التبادُع بين الريشة والقلم
السبت 17 تشرين الأول 2009
– 619 –
لا الى لوحاته هذه المرّة يتقاطرُ العشراتُ كل يوم بل الى كتاباته. ولا إليها رديفةً لأعمال ريشته بل الى قيمتها الأدبية في ذاتها، متأنّقةً متألّقةً في النصّ شكلاً ومضموناً، تطبيقاً لِما كَتَبَ هو نفسه في إحداها (19/4/1888 الى صديقه الرسّام إميل برنار): “أعجَبُ مِمَّن، في أوساط زملائنا الرسّامين، يظُنُّون أنْ لا قيمة للكلمات”.
هذا هو الحدث الكبير اليوم في أُوروپا: معرض “رسائل ڤان غوخ: الفنان يتكلَّم” (متحف ڤان غوخ في أمستردام – من 8 تشرين الأول الجاري الى 3 كانون الثاني 2010). ولكان يمكن أن تكون رسائله عاديةً رديفة أو مكملةً بعضَ وهجه كرسام غير عادي، لكنها على العكس تماماً: أظهرت أنه كاتبٌ مبدع بمستوى ما هو رسامٌ مبدع. وهذا ما دفع الشاعر العالمي وايستان هيوز أودن (1907-1973 وهو واضع كتاب ضخم عن ڤان غوخ) الى التعبير في إعجاب: “لم أجد رسالة واحدة – ولا واحدة فقط – لم تدهشني بقيمتها الأدبية العالية”. من هنا عبارة الكاتب العالمي يان هولسْكِر (1907-2002، وزير الثقافة الهولندي والقيّم طويلاً على متحف ڤان غوخ): “أضع هذه الرسائل، بدون تحفُّظ، في أعلى مستوى الكتابات الأدبية. عرف ڤان غوخ فيها كيف يعبِّر رائعاً بالكلمات كما عبَّر رائعاً بالخط واللون، ما يجعل لهذه الرسائل قيمة أدبية في ذاتها، الى جانب إضاءتها على حياة الرسام وأعماله. وهو في الكثير منها صاغ عباراته بما لا يُعطى إلاّ للنُدرة من كبار الأدباء في العالم”.
هذا الذي انتحر يأساً وإحباطاً وبعض جنون انفصاميّ (غروب 29 تموز 1890) بإطلاقه رصاصةً قاتلة على صدره وهو في ربيعه السابع والثلاثين، وعُقْدته الأوجع أنه عاش حياته مغبوناً ولم يقدِّر فنَّه أحد، مات وهو لا يدري أن الثروة التي تركها بعده من حياته القصيرة (نحو 2000 عمل بينها 900 لوحة زيتية و1100 رسم) هي اليوم بين الأغلى ثمناً في العالم، بل هي باتت خارج الكوتا الفنية، وأنه بات رائد الفن ما بعد الانطباعي الأوروپي في القرن التاسع عشر، والمؤثِّر عميقاً في رسامي النصف الأول من القرن العشرين.
وهي ذي رسائله الصادرة اليوم كتاباً في ستة مجلّدات ضخمة حاملةً 83 رسالة إليه، و819 رسالة منه الى شقيقه تيوفيل (651 رسالة)، والى تيو وزوجته جو (7 رسائل)، والى أصدقائه الرسامين (خصوصاً بول غوغان وإميل برنار) تضيء لا على حياته وحسب، ولا على همومه وحسب، ولا على اليأْس الذي كان ينخُره لشدّة فقره وحُزنه وتعاسته، بل على موهبة كتابية نادرة وفريدة لديه جعلت مدير متحف ڤان غوخ (أكسيل روغر) يصرّح بأنّ “ڤان غوخ المبدع في الفن الحديث، هو أيضاً مبدعٌ في الأدب، ترك بعده صرحاً من الرسائل يشكّل عمارة أدبية خالدة. لا حدود لإبداعه رساماً وكاتباً”.
يقودنا هذا الكلام الى التأكيد أنْ “لا حدود للنبوغ”. ومن يمتلك موهبة التعبير يمتلكها متعدِّدة الأوجه أحياناً فلا يعود فصلٌ لديه بين وسيلة وأخرى. المهمّ لحظةُ الإبداع، لحظةُ الإشراق في اقتبال الشَّعّ وإطلاقه الى السوى في تأنُقٍ خلاّق.
يقودنا هذا الأمر أيضاً الى كم أساسيٌّ ومهمٌّ أدبُ الرسائل لاكتشاف مكنوناتٍ في سيرة المبدع. فهذه مجموعة الرسائل بين جبران وماري هاسكل (325 رسالة منه، و290 رسالة منها، و47 من دفاتر مذكراتها الشخصية عنه، وجميعها في مكتبة جامعة نورث كارولاينا – تشابل هِلّ) تضيءُ على حياة جبران وشخصيّته كما لا يمكن أن يكون أحدٌ أضاء عليها.
علامة العبقريين: عند خُلودهم الى ذواتهم ليكتبوا الى حميميّيهم. هنا تتجلّى لَحظتُهم الأقصى في حوار الذات الى الذات قبل انتقالها الى السوى. وهنا حقيقةُ المبدع الخلاّق: في لحظةٍ حقيقيّةٍ يقولُها الى قلْبٍ آخر، قلبٍ يُحبُّه ويُخْلص له، يَجد فيه فجرَ حياةٍ نقيةٍ من كلّ قناع، بريئةٍ من كلّ ذئْبٍ خبيث، فيكون البوحُ باللحظة الحقيقية، ويكون الالتزامُ صادقاً في كلمةٍ، في قصيدةٍ، أو في رسالةٍ تكون في ذاتها مرآةَ القلب الصادق.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*