المحبة أراد جبران؟ أم الحب؟ (1)
السبت 31 تشرين الأول 2009
– 621 –
يلفِت أنْ بين معظم الترجمات التي صدرَت لـ”النبي”، تَرُوج في فصل “الحب” ترجمة “المحبة” كما وضعها سنة 1923 الأرشمندريت (مطران نيوجرزي لاحقاً) أنطونيوس بشير. ويلفت أيضاً أن هذه الترجمة هي الوحيدة التي اطّلع عليها جبران قبل مثولها للطبع ووافق بل أثنى عليها، كما تشير مراسلات تلك الفترة (1923) بين الصديقَين. غير أن ملاحظةً وردت موجزة في مذكرات ماري هاسكل تشير في وضوح الى أن جبران، بعدما ذاق مجد الشهرة الأميركية وتَتَالي ترجمات “النبي” الى لغات عالمية كبرى فور صدوره، “لم يدقّق في الترجمة العربية”، كما حين كتب إليه أندرو غَرِيْب يُطْلعه على ترجمة إنكليزية لبعض مقطوعاته العربية (صدرت لدى كنوف نفسه تحت عنوان “قصائد نثر” سنة 1929)، لم يدقِّق فيها وكتب الى غَرِيْب شاكراً في لطف.
أيكون جبران قَصَدَ أن يبشّر المصطفى بـ”الحب” أم بـ”المحبة”؟
اللافت هنا أن الكلمة الأصلية (love) في نص جبران تحتمل في العربية شِيَاتٍ كثيرة، ولكل شِيَةٍ (nuance) تبريرها وصحَّتُها. فهي (كرديفتها الفرنسية amour) تحتمل طبعاً معنى المحبة، لكنها تحتمل كذلك معاني الحب، والعشق، والهوى، والهُيام، والشغَف، والغرام، والوَلَه، والولَع، والوَمْق، ولا يمكن التفريق بينها إلاّ في السياق الذي يبنيه النص أو يُضْمره الكاتب.
وقد لا تكون مصادفةً أن الترجمات التي صدرت بعد نص بشير (1923)، وبفارق زمني من نحو ثلث قرن، أجمعَت على ترجمة “الحب” لا “المحبة”، كما يتّضح من نصوص ميخائيل نعيمة (1956) وثروت عكاشة (1959) ويوسف الخال (1968) ونويل عبدالأحد (1993) وجورج شَكُّور وأَلفرد مرّ (1996) ويوحنا قمير (1997) وجميل العابد (1998) وسركون بولص (2008).
ولهذه الترجمات تبريرُها المضموني والمعنوي واللغوي والألسني معاً. فعبارة (I love) الإنكليزية كعبارة (j’aime) الفرنسية يمكن أن تقال عن إنسان أو عن حيوان أو عن أيّ كائن يهواه الإنسان أو يميل إليه، وهو ما تعنيه كذلك بالإنكليزية عبارة (I like). بينما عبارة (I’m in love) لا يمكن أن تعني إلاّ الحب من إنسان الى آخر (إلاّ عند استخدامها في هذا المعنى على مستوى المجاز والاستعارة في قصد العاطفة الإيجابية تجاه كائن يراه الإنسان أو يعاينه أو يختبره أو يفاجئه فـ”يُحِبُّه”).
وقد يقصد البعض بـ”المحبة” معناها الأُنثوي الذي يتضمَّن الحنان والرحمة والشفقة والعطف والحُنُوّ وما إليها من صفاتٍ لا تَمنَحها إلاّ الأُنثى (أُمّ، شقيقة، جَدَّة، زوجة، صديقة، رفيقة، حبيبة، …) ولا تَجِد أفقها مترامياً لدى ذكورية اللفظة في كلمة “حب”.
غير أن تدقيقاً إيتيمولوجياً في الكلمة، بإسقاطه على المدى العاطفي، يؤدي تلقائياً الى أنّ المحبة يمكن أن يُغْدِقها الإنسان على كائن واحد كما على مَجموعة (خطبة المسيح على الجبل، أو خطبة المصطفى على تلّة أورفليس)، بينما مفهوم الحب لا يمكن يكون إلاّ من إنسانٍ واحد الى إنسانٍ واحد، وليس فيه إشراكٌ ولا مشاركةٌ ولا اشتراك.
في هذا المعنى الإيتيمولو-إنساني، يمكن القول إن الحب هو طير الجناحين معاً: الجسد والروح، بينما المحبة هي تلك العاطفة الكبرى ناقصةً الجسد، وقد تكون أيضاً ناقصةً منطقَ العقلانية، من هنا العبارة الشهيرة أنّ “للقلب منطقاً لا يعرفه المنطق نفسه”. وهذا ما يفسّر تصرفاتٍ متطرّفةً أحياناً لا تعرفها المحبة بل يعرفها الحب في حالات شغف شديد يبلغ معها الهُيام درجات اشتعال رائع يؤدي الى تصرفات رائعة ليس أقلّها الجنون أو الانتحار باسم الحب والوفاء والإخلاص والالتزام.
فكيف هذا “الحبَّ” الرائع كان يقصد جبران في فصل “الحب” من “النبي”؟
الى المقال التالي في “أزرار” الأسبوع المقبل.