القارئ رغماً عنه
السبت 10 تشرين الأول 2009
– 618 –
مع عودة أسراب التلامذة، هذه الأيام، إلى أعشاشهم في صفوف المدارس، يجدر الكلام على ظاهرة الكتاب الذي يجب أن يتخطّى معه التلميذ حدود واجباته “المفروضة” عليه في الكتاب المدرسي، وينتقل الى “متعة” المطالعة.
وما ينتشر في أرجاء لبنان من نوادٍ خاصّة للكتاب، وما يحتويه المنهج الرسمي من إيعاز بمطالعة هذا الكتاب أو ذاك، وما يوعز به الأهل والمدرِّسون والمرشدون من توجيهات التلامذة الى المطالعة إيعازاً مجانياً حيادياً تنظيرياً، ليس كافياً لتوجيه التلميذ الى المطالعة ولو طالع، أو الى ترغيبه في القراءة ولو قرأ، أو الى ترهيبه بعلامات الامتحان (المدرسي أو الرسمي) ولو نجح.
ليس المهمّ أن يقرأ التلميذ (كواجب مدرسي) بل أن يُقْبِل على القراءة (شغفاً ومتعةً ولذّةَ اكتشاف). ومثلما المدارس والجامعات ومؤسسات ثقافية رائدة تشهد نوادِيَ لـ”الكتابة الإبداعية”، فلتشهدْ أيضاً نوادِيَ أو على الأقلّ حلقات مخصصة للمطالعة (الصامتة) أو للقراءة (الجهورية) كي تتعمّم رغبة القراءة جماعياً في صفوف التلامذة الذين، حين يُقْبِلون على القراءة في متعة الاكتشاف، يُقْبِلون بعدها على الكتابة في متعة التأليف، فتتعمَّم فائدة الكتاب على المتلقّي، طالما نحن حالياً في أوقيانوس “بيروت عاصمة عالمية للكتاب”، وبيروت هي – في شكل أو آخر – أُمُّ الكتاب في العالم العربي، ومن هنا أنها الأجدر بريادة القراءة والمطالعة وترغيب المتلقّي بهما الى أقصى حَدّ.
وما تشهده بيروت سنوياً من ظاهرة نجاح معرض الكتاب الفرنكوفوني دليلٌ واضح على أن المشَهَّيات الموجودة لدى الناشرين الفرنكوفونيين ليست موجودةً بعد، أقلَّه في الشكل الواسع، لدى ناشري الكتاب العربي. فالكتاب الفرنكوفوني ترغيبٌ شهيٌ للقارئ، بأناقة طباعته وجمال إخراجه (والكتاب العربي غير بعيد عنهما) وإنما خصوصاً بما يرافقه من وسائل إيضاح تربوية لعلّ أبرزها القرص المصاحِب (سي.دي.) وفيه النص كاملاً بالصوت، أو بعضٌ منه، مع مقتطفات وأسئلة إيضاحية أو توجيهات (سمعية) الى اكتشاف النص أكثر، وسَبْر معانيه وخلفيّاته ورُمُوزه وجمالاته، والأهمّ الأهم: سماع التلميذ النصَّ بصوت قارئٍ محترف يعرف كيف يعطي الجملة أداءها، والكلمة نَبرتَها، والحروف مَخارجها، ما يعطي مُجموعُهُ فسحةً سائغة تجعل التلميذ يقْبل على الكتاب بـ”شهيّة الاكتشاف” لا بـ”واجب الفَرض المدرسي أو المنْزلي”.
واقعُ قراءة العربية الحاصلُ اليوم (في شكل عام) أن المنهج يقضي، والمدرّس يفرض، والتلميذ ينفّذ، بدون رغبة ولا شهية ولا متعة، فتصبح القراءة عذاباً للتلميذ يؤديها “رغماً عنه” فيصبح قارئاً “رغماً عنه” وينتهي به الأمر الى رفض القراءة والمطالعة والكتاب، وتالياً يهجر اللغة العربية الى لغات أجنبية (فرنسية أو إنكليزية أو سواهما) لأن فيها مُشَهَّيات للقراءة لم يجدها في الكتاب العربي.
القصد من كل هذا أن نخلق عند التلميذ، قارئ الكتاب العربي، تذوُّقَ الكلمة، وفُضولَ اكتشاف اللغة، ولذّةَ الاطّلاع على جماليات الأدب وأبعاده ورموزه ومعانيه، وهو ما لا يمكن بلوغُه لِمجرّد “أمْر” التلميذ بالقراءة في كتابٍ لا يجد فيه نصاً سائغاً، ولا يكتشف فيه دليلاً الى جماليات نسيجه التأليفيّ، ولا يقع فيه إلاّ على كلمات جامدة مشروحة في هامش النص.
ومتى أوجدنا للتلميذ “شهيةً” لقراءة الكتاب العربي، مطبوعاً بما يرغِّب لمطالعته، أو مسموعاً بما يشهّي للإنصات الى صوت قارئٍ مُحترف، تصبح القراءة لديه رغبةً قويةً يسترِقُ هو نفسُه الوقتَ لها خارج “فرض” الصف أو “أمر” المدرّس أو “زجر” الأهل، وعندها يتكوّن لدينا قارئٌ جديد يُقْبل على الكتاب العربي في نَهَمِ ما نشهده بين قراء اللغات الأخرى.
وإن لم نسعَ الى الاهتمام بهذه الناحية “القِرَائيّة” فعبثاً نسعى الى إبداعات “كتابية”، وسيبقى تلميذنا كاريكاتور “قارئ رغماً عنه” على صورة كاريكاتور موليير في مسرحيته “الطبيب رغماً عنه”.