شعرُ الحب في ميثولوجيا العصر
السبت 3 تشرين الأول 2009
– 617 –
هل شِعر الحبّ اليوم مغايرٌ عنه في أيّ عصرٍ مضى؟ هل المرأةُ الحبيبةُ ذاتُ صورةٍ مختلفة عنها في قصائد أوائل الشعراء؟ وهل بثُّ الحب اليوم للحبيبة، في وَلَهٍ شغوف، في وَلَعٍ هادر، في انصرافٍ محموم، غيرُه حينما كان الشعراء الأقدمون صادقين في حبّهم وبثُّوا حبيباتهم شِعراً بات مع العصور شمساً ملوَّنة لا تغيب عن ليل العاشقين؟
المرأةُ هي المرأةُ في كلّ عصر. وما نكتبه اليوم من صدقٍ في شِعر الحب (وهو غيرُ المتخيَّل المصطنَع في شِعر الغزل) سبَقَنَا إليه آباؤنا المباركون من شعراء العصور القديمة والوسيطة، والمعيار دوماً: أن يكون الشاعر صادقاً في بث عاطفته، وأن تستحقَّها المرأة التي انتظرها طويلاً على مفارق العمر يَحسَبُها وصلَتْ كلَّ مرة، حتى تصل فعلاً حين تكون مَرَّتُها هي الْمَرّة.
منذ فجر الحب والشِعر مرتبط به. في الميثولوجيا اليونانية كان السائد أنّ للشاعر علاقةً خاصة ذاتَ حظوة مميزة لدى الآلهة، وأنه وسيط بين الآلهة والبشر، يدخل حمأة الشِعر فيكشف رؤيا مغايرة للعالم (كما صوّره أفلاطون في شخصية إيّون التي أَقرّها سقراط، ولا يزال الجدل حتى اليوم: هل الشِعر وحيٌ مُلهَم أم فنٌ مصنَّع؟). وكان في السائد الميثولوجي أيضاً أنّ الشاعر متّصل بربّات الوحي التسع (آلِهاتٌ ذواتُ أجنحة)، لذا درَجَت الرابطة الوُثقى، حتى اليوم، بين الشاعر والنساء في حياته.
والأسطورة اليونانية ربطت الشعرَ بالموسيقى عبر أورفيوس (ابن ربة الوحي الإِلَهَة كاليوپ) وهو موسيقيٌّ موهوب تنساب الى أنغام قيثارته جميعُ عناصر الطبيعة متهاديةً غنَّاء. ومن ربْطِ الشِعر بالغناء كانت ضرورةُ الموسيقى عنصراً أساسياً في القصيدة. وتسميته “الشعر الغنائي” ناجمة من كون معظمه مرتبطاً بشِعر الحب (كان يُغَنَّى جهورياً للحبيبة).
مع الميثولوجيا الرومانية اللاتينية أخذ شعِر الحب (أوڤيد نَموذجاً) يُقدِّم صورةً مُؤَسْلَبَة عن الحبيبة وجمالها (تشبيهها بالوردة)، ويُبرز الشغف الجسدي بِها، والوَلَهَ الجارف الذي قد يمزّق الشاعر فيتعذَّب حتى ليحدث أن يُحبَّها ويكرَهَها في آن.
وحين راج في العصور الوسطى الشِعرُ التأليهي التمجيدي الذي يقدّس الحبيبة، ظهرت المرأة فيه نبيلة سامية يحبها شاعر دونَها قدْراً ويتمنّى أن يستاهلها في لحظة حبٍّ عظيمة لا تعود المرأة فيها تحصيلاً حاصلاً بل تظلّ سعياً مستداماً الى رضاها.
وجاء پترارك، في القرن الرابع عشر، يغدق على شِعر الحب مسحةً تَقَوِيّة تسامت حتى بلوغ نيرڤانا حب مطهِّرٍ يَدخل حتى عُمق النفس العاشقة، فيتلوَّى الشاعر من عذابٍ وشكوى، وتبقى المرأة مؤلَّهَةً فوق النوازع البشرية.
وفي كل ما سبق، تبقى الموسيقى ضرورةً تلازم الشِعر. لذا كان في عصر النهضة الأوروبية يتلى عالياً جهورياً، يصاحبه عزفٌ حيّ، وإلاّ تكون فيه إياه موسيقاه النغمية الواضحة المواكبة أبياته وأوزانه وصدى الكلمات والقوافي المنغَّمة.
في “وليمة” أفلاطون خطبة عن الحب أضاءت على الحب الحقيقي الناهد الى الكمال، الخالد الذي لا يموت، كالروح، كالفكر، كالنفس، يرقى بالسمُوّ نحو الجمال والخير والفضيلة، ويظل يتسامى حتى اتحاد الروح بالروح. ويرى أفلاطون أن المرأة والرجل يتكاملان ويتناديان ويتجاذبان، كما لو كانا جسداً واحداً ثم انفصل ذَكَراً وأنثى، فراح الرجل يبحث عن نصفه الآخر: المرأة، والمرأة تبحث عن نصفها الآخر: الرجل.
أين نحن اليوم من هذا الأعلاه؟ إننا في الخط البياني نفسه، في اللحظة نفسها ولا يتغيَّر سوى الأسلوب. فالحبيبةُ اليوم، حين تصل وتكون فعلاً عروسَ الانتظار الطويل، هي التي تستحقّ أن يقدّسها الشاعر، أن يسعى الى رضاها، أن يستاهلها، أن يُريها كم هزَّتْه وخَضَّتْه وغيَّرَتْهُ عُمقياً وجُذورياً، رجلاً وشاعراً، وأن يُخْلِصَ لها حتى الذَّوَبان الكليّ، حتى قلق حارق يلوّح له دائماً برُعب فقدانها الذي إذا وقع فيه الشاعر عاد الى صحراء عمره الرهيبة من جديد.
هكذا يكون الشاعر في حالة الحب الشِعرية. وما عدا ذلك فهو من الغَزَل، وما أبعدَه عن شِعر الحبّ.