لحظة الشِعر بين الحُـبّ والغزَل (1)
السبت 22 آب 2009
– 611 –
يظلُّ الشاعر يكتُبُ شعر “الغَزَل” حتى يبلُغَ لحظة “الحبّ” الحقيقي.
شعر الغزَل، ألَيس هو شعر الحب؟ لا. أبداً.
كتابةُ الغزَل هي “الشِعر للشِعر” (على منوال “الفن للفن”). يعني أن يكتُب الشاعر قصيدتَه مستوحاةً من امرأة، من حالةٍ ما مع امرأةٍ ما، يَجعل ذاته يعيش تلك الحالة، أو يضيفُ منه عليها كي تكتمل (ويوحي لقرّائه أنها اكتملت بتلك الـ”مرأةٍ ما”)، وفي حالات كثيرة (كما مع شعراء كثيرين) “يخترع” تلك الحالة ليعيش القصيدة فيكتبَها، وفي حالاتٍ أخرى ينسُج بعض تلك الحالة من بعض المعيوش ويكمل الباقي من خياله الشِعري الخلاّق. وفي جميع تلك الحالات يكون “يَصُوغ” لقرّائه صورةً له لديهم يَرَونه فيها فيروحون، انطلاقاً مِمّا يصلُهم منها، يُسْبِغُون عليه ألقاباً ونُعوتاً وأوصافاً (“شاعر المرأة”، “شاعر الحب”، …).
يظلّ الشاعر كل ذاك، حتى “يَهُزّه” الحب، “يَخُضّه” الحب، “يَخترقه” الحب، “يَرُجّه” الحب من أقصى كيانه إلى أقصى كيانه، ويكونُ أن يكونَ ذلك للمرة الأولى في حياته، والأصدقُ أنها ستكون المرة الوحيدة التي لن تعقبها أخرى.
وما المعيار؟ المعيار أن يكون هذا هو “الحبُّ الحقيقي” (بعد إيهامات واستيهامات عديدة ومقاربات قريبة أو وسيطة تكون سَبَقت) فيشعر الشاعر أنه لم يعُد في حاجةٍ إلى أن “يَخترع” الحالة أو “يضيف عليها” أو “ينسُجها”. لا يعود في حاجة إلى أن يكتب “عن” الحالة، بل يَصيرُ “يكتُبُها” (يصبح هو صدىً لها عوض أن تكون هي صدىً له). عندئذ لا تعود القصيدة إلى “امرأةٍ ما” (موجودةٍ أو متخيَّلةٍ أو مُختَرَعَةٍ من أجل الكتابة) بل تكون هي “المرأة” التي يكون الشاعر قبلها عَبَرَ سنواتٍ من حياته حفلَتْ بوجوه وأسماء وتجارب، كي يبلغ تلك المرأة الواحدة الوحيدة.
وما علامتُها هذه “الواحدة الوحيدة”؟ هي التي شخصيّتُها مُركَّبَة (ولا أقصد مُعقَّدة) غيرُ بسيطة (ولا أقصد ساذجة). وهي المرأة “الحقيقية” (ولا أقصد الواقعية أو بنت الواقع)، وبحضورها في حياته تُضيف عليه ما يغيّر إلى تطويرٍ في حياته وشخصيّته وكتاباته (نثريّها والشعريّ). وهي المرأة التي تكون “رَجَّتْه” كما ولا مرةً شعر بها في حياته بهذا الارتجاج القَدَريّ الرائع. وهي التي لو خسِرَها من حياته يَشعرُ أنه خسر ما يعادل كلّ حياته فتصبح أيامُه بعدها خارج التوازن: مريرةً، مضطربةً، فارغةً من مضمونٍ ذي قيمةٍ أو من رغبةِ حياة (عكس سابقاتٍ لها لم يشعر بفداحة خسارتهنّ حين غِبْنَ أو انتهت قصته معَهنّ). إنّها التي لا تَجمعه علاقةٌ بها بل قَدَر. العلاقةُ تضعف، تتلاشى، تنتهي. القدَر يعصف به في قوّة الحياة التي أيضاً في قوة الموت.
الشاعر قد “يصطنع” الغزَل وليس الحب. هكذا: قبْل الحب، هو في شعر الغَزَل. مع الحب، هو في لحظة الشعر الحقيقية.
والقارئ؟ ما الفرقُ لديه بين المتخيَّل والمعيوش؟ بين حالة منسوجة وحالة حقيقيَّة؟ بين قصيدة الغزل وقصيدة الحب؟ كيف له أن يُميِّز؟ هذا الفارق لا يعرفه إلاّ الشاعر وحبيبته أولاً، ثم لاحقاً قارئٌ ثاقب أو ناقدٌ ثقيف يلتقط هنيهة الـ”صحّ” بين الـ”قبْل” والـ”مُنذُ”، فيلاحظ كيف شعرُه “قبْلَها” كان لامرأةٍ من رخام أو خيال، وكيف “منذُ هي” بات شِعراً من حياة.
هذه الحبيبة (الحقيقيةُ التي، أخيراً، تكون وصلَت) قد لا تصدّق أن شاعرَها يُنكر شعره الجميل قبلها لأنه “من رخام”. وقد ترى في اعترافه هذا مبالغةً لأنها ترى أنّ شِعره قبْلها هو “مرآةُ حياته كما هو أراد لحياته أن تكون”. وهي على حق في أن تفكّر هكذا. لكنه، هو، يشعر في كيانه بالكثير مما لا يستطيع التعبير عنه شفاهةً لها أو شِعراً منها وإليها. وهنا المعيار: صِدقُه الداخليّ (ينعكس في شعره إليها مُختلفاً عن شِعره قبلها)، ومقدارُ ثقَتها به وإيمانها بأقواله وأفعاله وكتاباته “منذ هي”.
وإذا شِعر الغزَل “مصنوعٌ” للقارئ شِعراً للشِعر (على مبدأ “الفن للفن”) فشِعر الحب هو لحظةُ الشعر “الحقيقيةُ” التي لا يبلُغُها الشاعر إلا مرةً واحدةً وحيدة في عمره، ولو أتَت في… خريف العمر.