لحظة الشِعر بين الحُـبّ والغزَل (2)
السبت 29 آب 2009
– 612 –
قلتُ (في المقال الماضي: “أزرار” 611) إن الشاعر قد يصطنع الغزل، إنما لا يمكنه أن يصطنع الحب إن لم يكن يُحِبّ.
وما علامتُهُ هذا الحب؟ وحده الشاعر يعيشُه (حالةً من حبيبته، حَدَثاً معها، قولةً منها) فَيُحسُّه في كيانه، في وهج أعصابه، وينقُله إلى قصيدة حبٍّ لا يَخفى على المتلقّي التفاعلُ معها والتمييزُ بينها وبين قصيدة غزل لفظيّة شكلانيّة لا حُبَّ فيها.
هل هذا يُنقِص من قيمة قصيدة الغزل؟ أبداً. الجماليا في قصيدة الغزل (وهي أساس، ولو كانت شكلانيّة) تشير إلى شاعرية الشاعر وقُدرته على بَثّ رعشة الجمال في المتلقي. ومن هذا الغزل تنطلق الرمزية والبرناسية والغنائية الوجدانية.
الحبُّ له وجهٌ آخر. قاموسٌ آخر. وهو قد لا يبلُغ جماليا الغزل (إلاّ إذا تناوله شاعر مبدع) لكنه ينقل لحظة الصدق الحقيقية التي لا يُمكن الشاعر أن يزيد عليها نبضة ولا رعشة، ولا أن “يصطنع” لها حالة لأنّها تكون هي الحالة.
عن بودلير (في دراسة جان ميشال مولْپْوَى “الشعر والواقع”) أنّ الشاعر “ينطبع بالفكرة التي يعتنقها عن الجمال، حتى ليُشبه ما يريد هو أن يظهر به على الناس… اللاواقعي في التخيُّل ينعكس واقعياً في الظاهر، مثلما الواقعي نفسه يؤثِّر في طبيعة التخيُّل”. وهذا صحيح ويحدث في شعر الغزَل الجميل لكنه لا يحدث في شعر الحب.
أجمل قصائد سعيد عقل في الغزَل هي المتخيَّل الجميل الذي رفع الشعر العربي إلى أسمى مراتبه الجمالية (من الجمال) والجماليائية (من الإستيتيكا). لذا عبثاً نبحث في روائع سعيد عقل الغزَلية عن امرأة خلفها أو عن قصَّة حب، لأن الشاعر (ولو كانت في حياته حالة حب) ليس هَمُّهُ عرض حالة حبّه بقدْرما هَمُّه نَحْتُ قصيدة تبُثّ الجمال الأسمى. من هنا تشديد سعيد عقل على أن الفن (الشعر وسواه) هو خَلْق الجمال. ويروي باعتزازٍ كيف دخل يوماً عمر فاخوري على حلقة “دار المكشوف” وكان أعضاؤها حول الشيخ فؤاد حبيش يتناقشون في قصيدة غزلية صدرت في صدر الصفحة الأولى من “المكشوف”، فبادرهم عمر فاخوري: “لا تتعبوا في البحث. سعيد هنا لا يتغزَّل بامرأة بل بالقصيدة. امرأتُهُ هي القصيدة”. وما قاله شاعر “رندلى” من طراز “أجمل من عينيك حبي لعينيكِ” وسائر روائعه، ينسحب على معظم شعره الغزَلي الذي يَطمحُ إلى سُموّ الجمال أكثر مما إلى أن يُرضي امرأةً يُحبُّها أو أن ينقل للقارئ حالةَ حب “حقيقية واقعية حاصلة” يعيشها.
الياس أبو شبكة على العكس: كان هَمُّه أن يصرخ حبَّه في حالة “الحب الحقيقية الواقعية الحاصلة” كما هي، وهو ما جعله (إرضاءً لليلى، حبِّه الكبير) يُحرِق جميع أبيات الحب من قصيدته الطويلة “غلواء”، لأنه كتبَها قبل ليلى، في حُبّ أولغا (زوجته لاحقاً) وضحّى بِها كرمى لشعره منذ ليلى (وهنا أهمية الصدق لدى كل شاعر في ما هو “قبل” حُبِّه وما هو “منذ” حُبِّه) فخرجَت قصائد “نداء القلب” و”الى الأبد” طالعة من شرايين حبِّه ليلى إلى قلب الشعر، ولو جاء ذلك أحياناً على حساب الشعر نفسه، في أبيات أو مقاطع غابت عنها الشعرية الإبداعية في سبيل عرض الحالة كما هي أو الحدث كما هو.
الأمر نفسه في الشعر العالمي. فها رونسار غنّى حُبَّه كاسّانْدر، ولويس آراغون غنّى إِلسا فاشتُهِر بها، ونيرودا غنى حبَّه الكبير ماتيلدا أوروتيا، وكتبوا قصائد حب من شرايين الحب إلى قلب الشعر، فيما بودلير غنى امرأتين في شعر لم يكن سوى غزل، ولم تكن حالته مع جان دوڤال أكثر من حمم بركان حمراء طافت بغليانِها على جذوع “زهور الشر”.
في دراسة “شعر الحب من القديم إلى عصر النهضة” كتبت ڤيرجيني ميج أنّ “الشعر والحب متلازمان”. وخلُصَت إلى أن شِعر الحب يتوق إلى الاكتمال بالآخر (وهذا هو الشعر للحياة) بينما شعرُ الغزل يتوق إلى تَمجيد الجمال (وهذا هو الفنّ للفنّ).
ولكن… مهما تأَلّقت لحظة الجمال، تبقى لحظة الحياة، ولو هاربةً، هيَ هيَ شريان الحبِّ الأبقى إلى قلب الشِعر.