مصادر الإلهام في الشعر
السبت 15 آب 2009
– 610 –
بعد “الشعر للجميع” (“أزرار 608″) و”جوهر الشعر” (“أزرار” 609) نصل اليوم إلى مصادر الإلهام في الشعر.
بدايةً: أما زلنا أَسرى تلك الهالة الموروثة بأن الشاعر “ينتظر الإلهام” ليكتب؟ وبأنّ الألهام “أَلِفُ الشعر ويَاؤُه”؟ وماذا إذا لم “يأتِ” هذا الإلهام؟ وماذا إذا طال “انتظارُه”؟ وماذا إذا لم تتوفّر له مصادرُ “تَحُثُّهُ” على أن “يأتي”؟ أيبقى الشاعر ينتظر “غودو”؟ وما الأهمُّ للشِعر والشاعر: ينتظر الإلهام كي “يهبط عليه”؟ أم ينصرف إلى العمل الدؤوب الواعي الصقيل؟
من أهمّ المصادر: الحب، الخمر (زجاجة الأبسِنتْ “الساحرة الخضراء” كما حال بودلير)، المرض (كما حال السيّاب)، الموت (كما حال ناديا تويني)، الفقر، اليأْس الذي قد يؤدي إلى الانتحار، الفرح، الحاجة، التاريخ، الظروف السياسية (كما حال محمود درويش)، الظروف الاجتماعية، الإطار الفني (كالمسرح)، وسواها الكثير من الحالات الكبرى والعواطف القوية.
كثيرةٌ هي الظروفُ التي يَمرُّ بِها الشاعر وتَحثُّه على الكتابة، تقودُه إلى الكتابة، تنتظره إلى الكتابة وليس هو من ينتظرها. ومع تقدُّم العصر وتفكيك هالة “ربَّة الوحي”، يتوغَّل المبدعون الشعراء أكثر في “اشتغال” القصيدة ونَحْتها لائقةً بالشعر دون انتظار “وحي المصدر” (امرأة، وطن، حالة،…) حتى “تنزل” القصيدة “لابسة ثوبَها الكامل” كما يبشِّر الرومنطيقيون.
ليس في الشعر القويّ قصيدةٌ “تنزل لابسة ثوبَها الكامل”. تصل القصيدة مولوداً خاماً وعندئذٍ تبدأ ولادتُها الإبداعية بعد ولادتِها الطبيعية: حين يتناولها الشاعر ويَصقُلها ويقدِّمها بِحلّتها النهائية. كان لامرتين يدّعي أنّ قصيدته “البحيرة” جاءته “دفعةً واحدةً في لحظة إشراق مُلهَم”، وبعد وفاته وجد الباحثون بين أوراقه سبع كتابات مُختلفة ذات تنقيحاتٍ كثيرة لتلك القصيدة.
هكذا يتخلّى كثيرون من الشعراء المعاصرين عن “انتظار ربّة الوحي والإلهام”، فيُمسكون بأقلامهم وينصرفون في عمل دؤوب إلى “نَحْت” القصيدة على بياض الورق كما النحّات يَمتشق إزميله وينهال به على الصخر ليُطلع منه آيةَ جمال. علاقةُ الشاعر الحقيقية هي مع الكلمات لا مع “ربَّة الوحي”. مع كلماته يعيش، يُحاورها، يناغيها، يلامسها، يهدهدها، ينافرها، تعصاه غالباً فيعالِجها، يقسو عليها أو تقسو عليه، لكنه في النهاية (وهنا علامته المغايرة) يُطلع منها قصيدةً متماسكةً تبدو للمتلقّي سهلةً سلسةً لكنه لا يُدركُ ما قاسى الشاعر وعانى وقضى في “نَحْتها” كي تصل إلى قارئها في حلّة تبدو معها سهلة وسلسة. وهنا عبقرية الشاعر في التعاطي مع القصيدة ومع القارئ.
صحيح أن الشاعر في حاجة إلى “شرارة” (قد تكون حبيبتَهُ، فعلاً، أو أيّ مصدر آخر) لكنّ الشرارة وحدها تبقى عقيمةً إن لم تُفَجِّر في الشاعر بركاناً من العواطف يترجمها في القصيدة مضموناً أميناً لِلَحظة الشرارة، وشكلاً أميناً لمكانة الشاعر (تقليدياً كان أو مُجدِّداً أو طليعياً أو عبقرياً في جديده). القصيدة “شُغْلٌ” حقيقي، من نوع “الشغل” المضني الذي كم يتمنّى خلاله الشاعر أحياناً كثيرةً (وهو يلِدُ القصيدة) لو كان رجلاً عادياً لا هَمّ إبداعياً له ولا يلاحقه ضَنى الشعر.
الشرارة إلى البركان؟ صحيح. لكنه يحتاج معها إلى أدواتِ إشعال هذا البركان فيكون مصدر الإلهام هو نفسه الطريق إلى الإبداع المغايِر. وعندها يهنأ الشاعر بنعمة الاكتمال.
“خَلْق القصيدة” يكون في منطقة وُسطى بين اللاوعي في اقتِبالها والوَعْي في كتابتها: إذا كانت لحظة “الشرارة” لاواعيةً (وهي أحياناً كذلك) فكتابةُ القصيدة تكون في أكثر حالات الوعي يقظةً وترصُّداً لفسيفساء الكلمات الأجمل في المكان الأجمل لتُعطي التأثير الأجمل. لَحظةُ القصيدة هي اقتبالُ الوردة، وكتابتُها هي بَثُّ الأرَج. ووحده الشاعر يَحتمل شوكَها ليقدِّمَها إلى قارئه من دون شوك. وهذا هو “الشغل” الْمُضني الذي تتطلَّبه القصيدةُ من شاعرها أياً تكن “ربَّةُ الوحي والإلهام”.
الشاعر ليس عبداً لـ”ربّة الوحي” بل هو سيِّدُها.